جمال سلطان
17/3/1429
25/03/2008
بقدر ما مثّل الاستشراق الأوروبي توجّهات ذات طابع عدائي للتاريخ والحضارة الإسلامية، وبقدر ما ربط كثيرون ـ بحق ـ بين تطور الفكر الاستشراقي وبين تطور النزعة الاستعمارية الغربية، بمعنى= اعتبار الاستشراق مقدمة طبيعية لاستكشاف العالم الإسلامي فكرياً وسياسياً توطئة لوصول المدفع والبندقية، بقدر ما أفرزت لنا الحركة الاستشراقية نماذج فذة ونزيهة وشديدة الجدية في تعاملها مع التاريخ الإسلامي وعطاء المسلمين للحضارة الإنسانية، وعند ذكر هؤلاء المنصفين والجادين والأمناء، يأتي بكل تأكيد ذكر الباحثة الألمانية الشهيرة "زيغريد هونكة"، التي رحلت عن عالمنا قبل سنوات قليلة، وهذه السيدة من أنبل الشخصيات النسائية العلمية التي أعلنت تمردها على "المسلمات" الغربية السلبية التي رُوّجت عن الإسلام وحضارته، وكسرت أغلال التضليل الذي هيمن على الاستشراق الأوروبي تجاه الحالة الإسلامية.
"هونكة" عُرفت في العالم العربي بأنها صاحبة كتاب "شمس الله تشرق على الغرب"،
وهو أشهر كتاب غربي وضعه مستشرق معاصر ينتصر للحضارة الإسلامية وعطائها التاريخي وقيمها وعباداتها ولغتها ومنظومتها التشريعية والثقافية الضابطة لحياة مجتمع متحضر، وهي الحضارة التي علّمت العالم كله كيف يكون التحضّر، ولقد تُرجم هذا الكتاب الفذ إلى أكثر من سبع عشرة لغة -بما فيها العربية بالطبع- ووُزّع منه أكثر من مليون نسخة،
وأذكر أن الطبعة العربية التي قرأتها منذ حوالي عشرين عاماً، كان عنوانها "شمس العرب تشرق على الغرب"، ويبدو أن المترجم كان النزوع القومي غالباً عليه، أو ربما كانت الأجواء يومها في العالم العربي كانت تضطره إلى هذا "التحوير" لكي تمر ترجمته أو تلتفت لها مؤسسة رسمية، وإلاّ فإن لفظ الجلالة كان مكتوباً في النسخة الألمانية بنطقه العربي الصريح بالحرف اللاتيني، والشيء بالشيء يُذكر، فالمثير للدهشة أن زيغريد هونكة، قوبلت بتجاهل غريب من المؤسسات الثقافية العربية والنخب المتغربة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، والمثير أكثر أن معظم الدعوات التي وُجّهت إليها كانت من "قيادات سياسية"؛ رؤساء دول وملوك وأمراء، ومن جامعات ومؤسسات أكاديمية بحتة،
وذلك أن "المتنوّرين" في بلادنا كان لا يعجبهم أن يأتي باحث أوروبي ليكشف جهلهم بتراثهم وحضارتهم، وافترائهم على تاريخهم، كانوا لا يقبلون من امرأة أوروبية أن تعلمهم أن حضارتهم شهدت أرقى تعامل إنساني مع المرأة، وإنما هم يحاولون تصوير المرأة في حضارتهم بأنها كانت "من سقط المتاع"، وكانت "شيئاً" من الأشياء، ولم تعرف حقوقها وإنسانيتها إلاّ في أنوار الحضارة "الغربية طبعاً"، كانوا ينزعجون عندما تكشف لهم باحثة أوروبية أن أجدادهم ـ الذين يصفون عصورهم بعصور الظلام، وأن من ينادي بإحياء مجدهم بأنه ظلامي ورجعي ـ هم الذين وضعوا للعالم مبادئ إنسانية الأخلاق، وإنسانية التشريع، وإنسانية الفنون،
كانوا يخفون وجوههم خجلاً عندما تعلمهم باحثة أوروبية أن حضارتهم هي التي حققت أرقى توازن عرفته الإنسانية بين حقوق الجماعة وحقوق الفرد، مما ضمن تحرر الفكر الإبداعي الجادّ الذي أذهل العالم كله، في الوقت نفسه الذي حفظ للمجتمع حصانة مقدساته وتواصل أجياله وقوة نسيجه الاجتماعي، بينما المتنوّرون العرب هذه الأيام وأدعياء الإبداع، لا إبداعاً أبدعوا، ولا كرامة لأمتهم أبقوا، ولا تأسيساً متحضراً للحرية وضعوا، وإنما الأمر جعجعة وادّعاءات فجة، وتطاول مسفّ، وانتهازية "إعلامية" تغازل بعض الدوائر الأجنبية المشبوهة التي تبحث عن أي "ضجة" تستغلها في تشويه صورة العرب والمسلمين في أوساط الرأي العام الأوروبي، لتحصينه من أي مؤثرات إسلامية أو شرقية، ولم يكن كتاب هونكة المذكور هو الوحيد الذي أُنصفت فيه الحضارة الإسلامية، بل فاجأت العالم بكتابها "ليس الله كما يزعمون"، وفيه كشفت عن ألف حكم مسبق ضد العرب والمسلمين قام على التضليل والافتراء،
وقد حصلت هونكه على العديد من الأنواط والأوسمة، وتلقّت أكثر من عشرين دعوة من رؤساء الدول والجامعات في الدول العربية والإسلامية.
وفي العديد من الدول التي زارتها لم تكن هونكه بحاجة إلى إبراز جواز سفرها لموظفي الجمارك في المطارات والذين عرفوها من خلال الصحف والتلفاز، وكانوا يستقبلونها ويودّعونها بحفاوة ظاهرة، لقد نجحت تلك المرأة الغريبة عن بلادنا، تاريخاً ولساناً وديانة، في أن تنقل إلى المثقف الأوروبي الصورة الحقيقية للإنسان المسلم، وفضحت زيف الأحكام الأوروبية المسبقة حول اضطهاد المرأة في الإسلام، وشرحت لقرائها تأثير الحضارة العربية غير المحدود على التطور في أوروبا، على صعيد الطب والهندسة والعلوم والثقافة. هونكة الباحثة النبيلة المتحررة حقاً، والتي ودّعت العالم عن عمر يناهز الثمانين عاماً، كشفت ـ بطريق غير مباشر- أدعياء تحرير المرأة في العالم العربي، والأصوات المتاجرة بتحرّر المرأة، عندما قدمت لهم نموذجاً عملياً وحقيقياً وجاداً عن المرأة المتحررة حقاً لا زوراً وكذباً.