الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

وهنا سوف نعرض حدث لكل فترة من التاريخ عن عدم السمع والطاعة، وما هي النتيجة التي ترتبت على كل حدث ، وهي كالآتي :

أولًا : حدث من السيرة النبوية :
اختار رسول الله " صلى الله عليه وسلم " ثلة من الرماة الماهرين قوامها خمسون مقاتلًا ، وجعل القيادة لعبد الله بن جبير " رضي الله عنه " ووضعهم على جبل عينين المقابل لجبل أحد ، وأمرهم ألا يبرحوا أماكنهم مهما كانت ظروف تلك المعركة ، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من روائهم[1].
عن البراء " رضي الله عنه " ، قال : " جعل رسول الله " صلى الله عليه وسلم " على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير " رضي الله عنه " ، قال ووضعهم موضعًا، وقال : " إن رأيتمونا تخطفنا الطير ، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم ، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم " ، قال: فهزموهم .
قال : فأنا والله رأيت النساء تشتددن على الجبل _ يسرعن في المشي_ وقد بدت سوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير" رضي الله عنه " : الغنيمة ؛ أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فماذا تنتظرون؟ ، قال عبد الله بن جبير " رضي الله عنه " : أنسيتم ما قال لكم رسول الله " صلى الله عليه وسلم " ، قالوا : إنّا والله لنأتينَّ الناس فلنصيبنَّ من الغنيمة ، فلما أتوهم صُرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول " صلى الله عليه وسلم " في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله " صلى الله عليه وسلم " غير اثني عشر رجلًا ، فأصابوا منَّا سبعين رجلًا ، وكان رسول الله " صلى الله عليه وسلم " وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة ، سبعين أسيرًا وسبعين قتيلًا ..."[2] .
_ لقد علمتَ أخي رعاك الله ، كيف شدَّد رسول الله " صلى الله عليه وسلم " على الرماة بأن يلزموا أماكنهم وذلك حمايةً وصيانةً لمؤخرة المسلمين ، وأوصاهم ألا يبرحوا أماكنهم أبدًا ، ولو رأوا الجيش الإسلامي تتخطفه الطير! ، ولو رأوه أيضًا مُنتصراً ! ...
غير أنّ أثارة من حُبّ الدنيا عصفت بهذه الوصية في ساعة غفلة ؛ فما أن رأى الرُماة الهزيمة حلت بقريش والنساء يهِمْنَ في الجبل ، والرجال يولون الأدبار، والغنائم التي خلَّفها ثلاثة آلاف مشرك تزحم الوادي... حتى غادروا مواقعهم هابطين إلى الميدان، يبغون أنصبتهم من الأسلاب والأموال....، وكان فرسان المشركين بقيادة (خالد بن الوليد) محصورين، لا يجدون ثغرة ينفذون منها إلى قلب المسلمين إلى أن حلت الهزيمة ، فلما رأى خالد أن مؤخرة المسلمين انكشفت _ بنزول الرماة عن الجبل_ ولم يبقى عليها حرس اغتنم الفرصة على عجل ، فاستدار بالخيل وأحدق بخصومه مُنحدرًا عليهم من حيثُ لا يدرون أو يحتسبون ، حتى أعادت قريش شملها ووحدت صفوفها ، فأُحيط بالصحابة " رضوان الله عليهم " من الأمام والخلف ووقعوا بين شقي الرحى...[3] .
ها قد رأيتم إخوة الإيمان ؛ ما حلّ بالمسلمين في معركة أحد من جراء مخالفة الرماة لأوامر رسول الله _ عليه الصلاة والسلام _ ، فالطاعة يا إخوة ليست مُجرد كلمة تُلاك بها الألسن ، وإنَّما هي كلمة ذات تكاليف وأعباء ، فإنَّ في فعلها الانتصار ، وفي تركها أو التهاون بها الانكسار ! .

ثانيًا : حدث من التاريخ الإسلامي :
_ أرسل موسى بن نُصير " رحمه الله " القائد الأعلى للقوات المسلحة الإسلامية في الشمال الإفريقي عام 89هـ / 704م، حملة لفتح جزيرة سردينيا التي تقع إلى الشمال من جزيرة صقلية في البحر الأبيض المتوسط بقيادة عطاء بن أبي نافع الهذلي، وقد تم فتح الجزيرة بحمد الله تعالى ، وأراد عطاء وجنده العودة إلى مقر القيادة في الشمال الإفريقي _المغرب_، فأشار عليه قائده موسى بن نصير " رحمه الله " بعدم العودة في هذا الوقت ، وذلك بسبب موسم هبوب الرياح العاتية ونشوء العواصف ؛ مما يؤدي إلى اضطرابات في البحر نتيجة لذلك ؛ لكنّ عطاء لم يتبع النصيحة ولم يمتثل لأوامر قائده الأعلى، فتحرك في ذلك الوقت ، مما حال بينه وبين الوصول إلى مقر الجيوش الإسلامية في الشمال الإفريقي ، فقد غرق القائد عطاء الهُذلي وجنده في البحر " رحمهم الله أجمعين "[4] .

ثالثًا : حدث من التاريخ الحديث :
_ وهذا الحدث صار مع المجاهدين في الشيشان ضد الروس، ويروي هذا الحدث الأخ محمد السمرقندي في كتابه ( أخبار القلم والسيف في رحلة الشتاء والصيف ) ، يذكر أنَّ المجاهدين في الشيشان بقيادة القائد خطاب " رحمه الله " قرروا تحويل القتال مع الروس من حرب نظامية إلى حرب عصابات ، ولأجل ذلك كان لا بُدَّ أن تنطلق مسيرة مكونة من 1250 مجاهد من الجبال الجنوبية للشيشان إلى المناطق الشرقية ، وكانت المسيرة حسب تقديرات بعض القادة لا تستغرق أكثر من أربعة أيام ، وتجمع المجاهدون في قرية زورني، وقبل الانطلاق كان يجب التزود بالمؤن والعتاد من أجل الطريق، ولكن حدث عند التزود بالمؤن شيء وهو كما يقول راوي القصة " انتشر الخبر بين المجاهدين أن المسيرة أربعة أيام فقط ، فتساهلنا في التزود لها.... وأمر القائد العام بوضع كل الطعام على الطريق في أول قرية خرجنا منها ، وقال: خذوا ما استطعتم حمله ، فإن أمامنا مسيرة لا نعلم نهايتها، ولكن لم يهتموا لذلك وحملوا من الزاد القليل....".
_ للأسف فقد أخطأ الإخوة حينما لم يطيعوا أوامر القائد العام خطاب " رحمه الله " وتكاسلوا عن التزود بالمؤن بحُجة أنَّ المسيرة لن تستمر طويلًا ، ولكن قدر الله _ عزوجل _ شيئًا غير الذي يتوقعه المجاهدون ، فالله على كل شيء قدير، فقد استمرت المسيرة حوالي أربعين يومًا أو أكثر من ذلك ، ونفد الزاد ، وأُصيب المجاهدون بالجوع والعطش والتعب والإعياء ، ليس يا إخوة كل ذلك من عدم تزودهم بالمؤن، لا فهناك عوامل أخرى قاسية أدت إلى ذلك ، ولكن أخطأ المجاهدون بعدم طاعة القائد في شأن التزود ، فقد أخفى القدر لهم ما لا يتوقعون ، والعبرة يا إخوة يا كرام هي ( أنّ التهاون في الأمور وعدم إعطائها حقها من الإعداد قد يكلف الكثير جدًا، وكذلك امتثال أوامر القادة أيضًا )[5] .
والشاهد من هذه الأحداث والأمثلة الواردة في تلك القصص أن عدم السمع والطاعة والامتثال لأوامر القادة والأمراء قد يجلب أمورًا لا تُحمد عُقباها، وقد تودي إلى انكسارات وهنّات لا يعلم بها إلا الله _ سبحانه وتعالى _ .
ولتعلموا إخوة الإيمان أن هذه القصص لم نسردها لتتبع عثرات القوم فمخطئٌ من ظن ذلك ؛ وإنما سردنا تلك القصص من أجل أخذ الفائدة والعبرة والعظة وتعلم الدروس، قال تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف:111 ] .
يقول الشاعر:
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر.... ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخبر

_ كتبه : أبو الليث الصنهاجي ...
7 / جمادي الأولى / 1436 هـ .
26 / 2 / 2015 م .

________________________
[1] سيرة الرسول " صلى الله عليه وسلم " / الشيخ : أبو عمار محمود المصري _ صـ 298 .

[2] البخاري ( 4043 ) .

[3] فقه السيرة / الغزالي _ ص293 ( بتصرف ) .

[4] الأندلس التاريخ المصور/ د. طارق سويدان _ ص 20.

[5] أخبار القلم والسيف ... _ صـ 260 _ 265 ( بتصرف ) .