تحقيق مذهب الشافعي في مذهبه القديم والجديد
فَائِدَةٌ :
مِنَ المُقَرَّرِ عِنْدَ العَامَّةِ مِنْ أهْلِ العِلْمِ بأنَّ الإمَامَ الشَّافِعيَّ رَحِمَهُ اللهُ كَانَ لَهُ مَذْهَبَانِ : مَذْهَبٌ في العِرَاقِ ومَذْهَبٌ في مِصْرَ .
فأمَّا مَذْهَبُهُ الَّذِي في العِرَاقِ : فَهُوَ مَذْهَبُهُ القَدِيْمُ الَّذِي تَلَقَّاهُ عَنْهُ تَلامِيْذُهُ هُنَاكَ، وألَّفَ فِيْهِ كَثِيْرًا مِنْ كُتُبِهِ، لاسِيَّما كِتَابُهُ «
الرِّسَالَةُ» .
وأمَّا مَذْهَبُهُ الَّذِي في مِصْرَ : فَهُوَ مَذْهَبُهُ الجَدِيْدُ الَّذِي حَرَّرَهُ عِنْدَمَا انْتَقَلَ إلى مِصْرَ، مُرُوْرًا بمَكَّةَ؛ حَيْثُ الْتَقَى بعَدَدٍ مِنَ العُلَماءِ وأئِمَّةِ الحَدِيْثِ، فعِنْدَهَا بَدَأ لَهُ كَثِيْرٌ مِنَ الأدِلَّةِ، الأمْرُ الَّذِي تَرَاجَعَ مِنْ خِلالهَا عَنْ كَثِيْرٍ ممَّا كَانَ عَلَيْهِ بالعِرَاقِ، وهُوَ مَا أصْبَحَ يُعْرَفُ بالمَذْهَبِ الجَدِيْدِ، وعِنْدَهَا أعَادَ كِتَابَةَ كِتَابِهِ «
الرِّسَالَةِ»، فسُمِّيَتْ وَقْتَهَا : بالرِّسَالَةِ الجَدِيْدَةِ .
ومِنْ عَجِيْبِ القَالاتِ؛ أنَّ نَفَرًا مِنْ خَمَائِلِ الطُّلَّابِ؛ ظَنُّوا بَأنَّ الإمَامَ الشَّافِعيَّ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ غَيَّرَ مَذْهَبَهُ؛ لتَغْيِيْرِ عَوَائِدِ النَّاسِ وطَبَائِعِهِم، وأنَّهُ رَاعَى المَصَالِحَ والعَادَاتِ فَقَط، وأنَّهُ أفْتَى بفَتَاوِي تُنَاسِبُ أهْلَ مِصْرَ تَيْسِيْرًا عَلَيْهِم ... إلى آخِرِ هَذَا الهُرَاءِ البَارِدِ!
ومَا عَلِمُوا أنَّ فَتَاوِي الشَّافِعيِّ في مِصْرَ هِيَ أشَدُّ مِنْ فَتَاوِيْهِ في العِرَاقِ، وأنَّ مَذْهَبَهُ في العِرَاقِ أقْرَبُ إلى التَّيْسِيْرِ مِنْهُ في مِصْرَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ أُصُوْلِهِ! هَذَا إذَا عَلِمْنَا أيْضًا أنَّهُ بَنَى مَذْهَبَهُ الجَدِيْدَ على الاحْتِيَاطِ، ولا تُوْجَدُ مَسْألَةٌ وَاحِدَةٌ تَرَاجَعَ عَنْهَا الإمَامُ بدَعْوَى تَغْيِيْرِ الظُّرُوْفِ بَيْنَ مِصْرَ والعِرَاقِ، والبَيِّنَةُ على المُدَّعِي، وهَيْهَاتَ!
وكَمَا قَالَ تَلْمِيْذُهُ الإمَامُ أحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ لمَّا قِيْلَ لَهُ : مَا تَرَى في كُتُبِ الشَّافِعي الَّتِي عِنْدَ العِرَاقِيِّيْن َ، أحَبُّ إلَيْكَ أم الَّتِي عِنْدَ المِصْرِيِّيْنَ ؟ قَالَ : «عَلَيْكَ بالكُتُبِ الَّتِي وَضَعَهَا بمِصْرَ، فَإنَّهُ وَضَعَ هَذِهِ الكُتُبَ بالعِرَاقِ، ولم يَحْكُمْهَا، ثُمَّ رَجَعَ إلى مِصْرَ فَأحْكَمَ ذَلِكَ»، انْظُرْ : «مَنَاقِبَ الإمَامِ الشَّافِعيِّ» للحَافِظِ البَيْهَقيِّ (1/263(، فحَسْبُكَ بِمَا قَالَهُ تَلْمِيْذُهُ إمَامُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، ودَعْ عَنْكَ بُنَيَّاتِ الطَّرِيْقِ!
وقَدْ تَقَرَّرْ عِنْدَ أئِمَّةِ المَذْهَبِ الشَّافِعيِّ : بَأنَّهُ لا يَجُوْزُ تَقْلِيْدُ الشَّافِعيِّ في مَذْهَبِهِ القَدِيْمِ، ولَوْ كَانَ المُقَلِّدُ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ .
ولَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أنَّ الفَقِيْهَ لا يَجُوْزُ لَهُ أنْ يُغَيِّرَ فَتْوَاهُ بتَغَيُّرِ الزَّمَانِ والمَكَانِ، بَلْ هَذَا ممْكِنُ في المسَائِلِ الاجْتِهَادِيَّ ةِ المَبْنِيَّةِ على العُرْفِ والمَصَالحِ ورَفْعِ الحَرَجِ، أمَّا المسَائِلِ المَبْنِيَّةِ على الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّحِيْحَةِ، فَهِي ثَابِتَةٌ وصَالحَةٌ لكُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ لا تَتَبَدَّلُ ولا تَتَغَيَّرُ،
فَتَأمَّلْ!

الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
صيانة الكتاب
ص 65