تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (10)
صــ43 إلى صــ 48
السَّادِسُ أَنَّهُ لِلشَّكِّ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِينَ ، إِذِ الشَّكُّ مُرْتَفِعٌ عَنِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الرُّومِ: 37 ] يُرِيدُ: فَالْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِيمَا تَظُنُّونَ . [ ص: 43 ] فَأَمَّا التَّفْسِيرُ لِمَعْنَى الْكَلَامِ: أَوْ كَأَصْحَابِ صَيِّبٍ ، فَأَضْمَرَ الْأَصْحَابَ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ دَلِيلًا عَلَيْهِ .
وَالصَّيِّبُ: الْمَطَرُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ فَيْعَلٌ مِنْ صَابَ يُصُوبُ: إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَازِلٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى اسْتِفَالٍ ، فَقَدْ صَابَ يَصُوبُ ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وَفِي الرَّعْدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَوْتُ مَلِكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ صَوْتُ مَلِكٍ يَسْبَحُ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ مَلِكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ كَمَا يَسُوقُ الْحَادِيَ الْإِبِلَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ أَنَّهُ قَالَ: الرَّعْدِ: الرِّيحُ . وَاسْمُ أَبِي الْجِلْدِ: جِيلَانُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ الْبَصَرِيُّ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ ، حَكَاهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .
وَفِي الْبَرْقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَخَارِيقٌ يَسُوقُ بِهَا الْمَلِكُ السَّحَابَ ، رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُوَ ضَرْبَةٌ بِمِخْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ ضَرْبَةٌ بِسَوْطٍ مِنْ نُورٍ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْمَخَارِيقُ: ثِيَابٌ تَلُفُّ ، وَيَضْرِبُ بِهَا الصِّبْيَانُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَشَبَّهَ السَّوْطَ الَّذِي يَضْرِبُ بِهِ السَّحَابَ بِذَلِكَ الْمِخْرَاقِ .
[ ص: 44 ] قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
كَأَنَّ سُيُوفَنَا فِينَا وَفِيهِمْ مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لَاعِبِينَا
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرْقُ مَصْعُ مَلَكَ ، وَالْمَصْعُ: الضَّرْبُ وَالتَّحْرِيكُ .
الثَّانِي: أَنَّ الْبَرْقَ: الْمَاءُ ، قَالَهُ أَبُو الْجِلْدِ ، وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ أَنَّ الْبَرْقَ: تَلَأْلُؤُ الْمَاءِ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَارٌ تَتَقَدَّحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ لِسَيْرِهِ ، وَضَرْبِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ ، حَكَاهُ شَيْخُنَا .
وَالصَّوَاعِقُ: جُمْعُ صَاعِقَةٍ ، وَهِيَ صَوْتٌ شَدِيدٌ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ يَقَعُ مَعَهُ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ تُحْرِقُ مَا تُصِيبُهُ ، وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّ الْمَلِكَ الَّذِي يَسُوقُ السَّحَابَ ، إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ ، طَارَ مِنْ فِيهِ النَّارُ ، فَهِيَ الصَّوَاعِقُ . وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ نَارٌ تَنْقَدِحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ صَاعِقَةً ، لِأَنَّهَا إِذَا أَصَابَتْ قَتَلَتْ ، يُقَالُ: صَعَقَتْهُمْ أَيْ: قَتَلَتْهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَهُوَ جَامِعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقُ: 12 ] قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِحَاطَةَ: الْإِهْلَاكُ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [ الْكَهْفِ: 42 ] .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَفْعَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ يَكَادُ بِمَعْنَى: يُقَارِبُ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ إِذَا أُثْبِتَتِ انْتَفَى الْفِعْلُ ، وَإِذَا نُفِيَتْ ثَبَتَ الْفِعْلُ . وَسُئِلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِي نَ فَقِيلَ لَهُ .
أَنَحْوِيُّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِي كَلِمَةٌ جَرَتْ بِلِسَانَيَّ جُرْهُمٍ وَثَمُودَ
إِذَا نَفَيْتَ وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَثْبَتَتْ
وَإِنْ أَثْبَتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
[ ص: 45 ] وَيَشْهَدُ لِلْإِثْبَاتِ عِنْدَ النَّفْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [ النِّسَاءِ: 87 ] وَقَوْلُهُ: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [ النُّورِ: 40 ] وَمِثْلُهُ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [ الزُّخْرُفُ: 52 ] وَيَشْهَدُ لِلنَّفْيِ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكَادُ الْبَرْقُ [ الْبَقَرَةِ: 20 ] وَ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [ النُّورِ: 43 ] وَ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [ النُّورِ: 35 ] . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَادَ: بِمَعْنَى هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ . وَقَدْ جَاءَتْ بِمَعْنَى [الْإِثْبَاتِ ] قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ لِعَيْنَيْهِ مَيٌّ سَافِرًا كَادَ يَبْرَقُ
أَيْ: لَوْ تَعَرَّضَتْ لَهُ لَبَرَقَ ، أَيْ: دَهِشَ وَتَحَيَّرَ .
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي الْمَنْفِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِثْبَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسَ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مِيَّةَ يَبْرَحُ
أَرَادَ: لَمْ يَبْرَحْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ .
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْيَاءِ ، وَسُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ . وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ ، وَكَسْرِ الطَّاءِ مُخَفَّفًا . وَرَوَاهُ الْجَعْفِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ ، وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْيَاءَ . وَعَنْهُ: فَتْحُ الْيَاءِ وَالْخَاءِ مَعَ كَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ .
وَمَعْنَى "يَخْطِفُ" يَسْتَلِبُ وَأَصْلُ الِاخْتِطَافِ: الِاسْتِلَابُ ، وَيُقَالُ لِمَا يَخْرُجُ بِهِ الدَّلْوُ: خُطَّافٌ ، لِأَنَّهُ يَخْتَطِفُ مَا عُلِّقَ بِهِ . قَالَ النَّابِغَةُ:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ مَتِنَةٍ تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ
وَالْحَجْنُ: الْمُتَعَقِّفَة ُ ، وَجَمَلٌ خَيْطَفٍ: سَرِيعُ الْمَرِّ ، وَتِلْكَ السُّرْعَةُ الْخَطْفَى .
[ ص: 46 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: ضَاءَ الشَّيْءَ يَضُوءُ ، وَأَضَاءَ يُضِيءُ ، وَهَذِهِ اللُّغَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ .
فَصْلٌ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَا الَّذِي يُشْبِهُ الرَّعْدَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّخْوِيفُ الَّذِي فِي الْقُرْآَنِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يَخَافُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ إِذَا عَلِمَ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُون َ بِنِفَاقِهِمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا يَخَافُونَهُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْجِهَادِ وَقِتَالِ مَنْ يُبْطِنُونَ مَوَدَّتَهُ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .
وَاخْتَلَفُوا مَا الَّذِي يُشْبِهُ الْبَرْقَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ مِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يُضِيءُ لَهُمْ مِنْ نُورِ إِسْلَامِهِمُ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِمَا يَنَالُونَهُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ ، فَإِنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا ذَخَرَ لَهُمْ فِي الْأَجَلِ كَالْبَرْقِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَفِرُّونَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآَنِ لِئَلَّا يَأْمُرُهُمْ بِالْجِهَادِ مُخَالَفَةَ الْمَوْتِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَثَلٌ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآَنِ كَرَاهِيَةً لَهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: كُلَّمَا أَتَاهُمُ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَ تَابَعُوهُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ .
[ ص: 47 ] وَالثَّانِي: أَنَّ إِضَاءَةَ الْبَرْقِ حُصُولُ مَا يَرْجُونَهُ مِنْ سَلَامَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَكَلُّمُهُمْ بِالْإِسْلَامِ ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ ، اهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ وَقَفُوا فِي ضَلَالَةٍ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّ إِضَاءَتَهُ لَهُمْ: تَرْكُهُمْ بِلَا ابْتِلَاءٍ وَلَا امْتِحَانٍ ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ بِإِظْهَارِ مَا يُظْهِرُونَهُ . ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .
فَأَمَّا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ قَالَ: إِضَاءَتُهُ: إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ ، قَالَ: إِظْلَامُهُ: إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ . وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْعَكْسِ .
وَمَعْنَى (قَامُوا): وَقَفُوا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ . قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِين َ وَالْيَهُودِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَ"النَّاسُ" اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ الْآَدَمِيِّ . وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَحَرُّكِهِمْ فِي مُرَادَاتِهِمْ . وَالنَّوْسُ: الْحَرَكَةُ . وَقِيلَ: سُمُّوا أُنَاسًا لِمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ النِّسْيَانِ . [ ص: 48 ] وَفِي الْمُرَادِ بِالْعِبَادَةِ هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ ، . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ ، رُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخَلْقُ: وَالْإِيجَادُ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، لِأَنَّهُ أَبْلُغُ فِي التَّذْكِيرِ ، وَأَقْطَعُ لِلْجَحْدِ ، وَأَحْوَطُ فِي الْحُجَّةِ . وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِهِمْ مِنْ إِثَابَةِ مُطِيعٍ ، وَمُعَاقِبَةِ عَاصٍ .
وَفِي "لَعَلَّ" قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى كَيْ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوَثِّقِ
فَلْمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ
كَلَمْعِ سَرَابٍ فِي الْمَلَا مُتَأَلِّقِ
يُرِيدُ: لِكَيْ نَكُفَّ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ مُقَاتِلٌ وَقُطْرُبٌ وَابْنُ كَيْسَانَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى التَّرَجِّي ، وَمَعْنَاهَا: اعْبُدُوا اللَّهَ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى ، وَلِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْعِبَادَةِ - عَذَابُ رَبِّكُمْ . وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الشِّرْكَ ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النَّارَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَعَلَّكُمْ تُطِيعُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا .
إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا لِسِعَتِهَا ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرِضَتِ الْقُرْحَةُ: إِذَا اتَّسَعَتْ .
وَقِيلَ: لِانْحِطَاطِهَا عَنِ السَّمَاءِ ، وَكُلُّ مَا سَفَلَ: أَرْضٌ ، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَرُضُّونَهَا بِأَقْدَامِهِمْ ، وَسُمِّيَتِ السَّمَاءُ سَمَاءً لِعُلُوِّهَا . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكُلُّ مَا عَلَا عَلَى الْأَرْضِ فَاسْمُهُ بِنَاءً ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبِنَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّقْفِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ يَعْنِي مِنَ السَّحَابِ .
مَاءً يَعْنِي: الْمَطَرَ .