{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانَ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة: 5]

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ..
{الطَّيِّبَاتُ} الْحَلَالُ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالْمَطَاعِمِ , دُونَ الْخَبَائِثِ مِنْهَا..
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى, وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ, وَأُنْزِلَ عَلَيْهِمْ, أَوْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي مِلَّتِهِمْ، فَدَانُوا بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَحَرَّمَ مَا حَرَّمُوا، وَحَلَّلَ مَا حَلَّلُوا، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ.. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عَنَى بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ , الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ , مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَبْنائِهِمْ , فَأَمَّا مَنْ كَانَ دَخِيلًا فِيهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ مِمَّنْ دَانَ بِدِينِهِمْ وَهُمْ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ , فَلَمْ يُعْنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ أُوتِي الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ يَقُوْلُهُ, وَيَتَأَوَّلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ مَنْ كَرِهَ ذَبَائِحَ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، كَقَوْلِ عَلِيِّ بنِ أبيِ طَالِبٍ، رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ: «لَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ, فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ النَّصْرَانِيَّ ةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ»، وفي لفظ «فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنَ النَّصْرَانِيَّ ةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ»، وفي لفظ «فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ دِينِهِمْ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ»، وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ, إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى, عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى النَّصْرَانِيَّ ةِ, لِتَرْكِهِمْ تَحْلِيلَ مَا تُحَلِّلُ النَّصَارَى وَتَحْرِيمَ مَا تُحَرِّمُ غَيْرَ الْخَمْرِ، وَمَنْ كَانَ مُنْتَحِلًا مِلَّةً هُوَ غَيْرُ مُتَمَسِّكٍ مِنْهَا بِشَيْءٍ, فَهُوَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّحَاقِ بِهَا وَبِأَهْلِهَا, فَلِذَلِكَ نَهَى عَلِيٌّ عَنْ أَكْلِ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ , لَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , وَكَانَ إِجْمَاعًا مِنَ الْحُجَّةِ ألَّا بأسَ بِذَبِيحَةِ كُلِّ نَصْرَانِيٍّ وَيَهُودِيٍّ, دَانَ دِينَ النَّصَارَى أَوِ الْيَهُودِ, فَأَحَلَّ مَا أَحَلُّوا , وَحَرَّمَ مَا حَرَّمُوا، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ , فَبَيِّنٌ خَطَأُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ وَتَأْوِيلِهِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} أَنَّهُ ذَبَائِحُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ, وَصَوَابُ مَا خَالَفَ تَأْوِيلَهُ ذَلِكَ , وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَحَلَالٌ ذَبِيحَتُهُ مِنْ أَيِّ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ كَانَ..
{حِلٌّ لَكُمْ} حَلَالٌ لَكُمْ أَكْلُهُ دُونَ ذَبَائِحِ سَائِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ, فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مِمَّنْ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ -عَزَّ ذِكْرُهُ- وَدَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَحَرَامٌ عَلَيْكُمْ ذَبَائِحُهُمْ..
{وَطَعَامُكُمْ} وذَبَائِحُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ..
{حِلٌّ لَهُمْ} حِلٌّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ..
{وَ} أُحِلَّ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَنْكِحُوا..
{الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} وَهُنَّ الْحَرَائِرُ مِنْهُنَّ..
{والمحصنات} وَالْحَرَائِرُ.. فَيَحْرُمُ إِمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ نَتَزَوَّجَهُنّ َ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَأْذَنْ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ الْأَحْرَارِ فِي الْحَالِ الَّتِي أَبَاحَهُنَّ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُنَّ مُؤْمِنَاتٍ, فَقَالَ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}[النساء: 25] فَلَمْ يُبِحْ مِنْهُنَّ إِلَّا الْمُؤْمِنَاتِ..
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مِنَ الَّذِينَ أُعْطُوا الْكِتَابَ, وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ دَانُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَا يَخَافُ النَّاكِحَ فِيهِ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْكُفْرِ..
{مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ وَسَائِرِ النَّاسِ, أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أَيْضًا..
{إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ } إِذَا أَعْطَيْتُمْ مَنْ نَكَحْتُمْ مِنْ مُحْصَنَاتِكُمْ وَمُحْصَنَاتِهِ مْ..
{أُجُورَهُنَّ} مُهُورُهُنَّ.. فَإِنَّ الْأَجْرَ: الْعِوَضُ الَّذِي يَبْذُلُهُ الزَّوْجُ لِلْمَرْأَةِ لِلِاسْتِمْتَاع ِ بِهَا , وَهُوَ الْمَهْرُ..
{مُحْصِنِينَ} أُحِلَّ لَكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ , وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ , وَأَنْتُمْ مُحْصِنُونَ أَعِفَّاءَ..
{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} لَا مُعَالِنِينَ بِالسِّفَاحِ بِكُلِّ فَاجِرَةٍ..
{وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانَ} وَلَا مُنْفَرِدِينَ بِبَغِيَّةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ خَادَنَهَا وَخَادَنَتْهُ وَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ صَدِيقَةً يَفْجُرُ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْإِحْصَانِ وَوُجُوهَهُ وَمَعْنَى السِّفَّاحِ وَالْخِدْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ..
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} وَمَنْ يَجْحَدْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. وَمَنْ يَأْبَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَيَمْتَنِعْ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ..
{فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فَقَدْ بَطَلَ ثَوَابُ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا , يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ بِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ..
{وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة: 5] الْهَالِكِينَ الَّذِينَ غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَعَمَلِهِمْ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ.

انتهى من مختصري لتفسير الطبري