الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

ففي عام 1358هـ كتب أحد علماء الأزهر وهو الشيخ علي الزنكلوني كتابا يطعن فيه بشخص العلامة محمد حامد الفقي –رحمه الله- مجدد الدعوة السلفية في مصر، وقد طار برده ذاك الأشاعرة أصحاب (مجلة الإسلام)، ففوجئ الشيخ حامد بذلك الكتاب، فأخذه وعرضه على الشيخين عبدالمجيد سليم شيخ الأزهر –آنذاك- وأحمد حسين وزير الأوقاف –آنذاك- رحمهما الله ليأخذ منهما النصيحة والتوجيه، فاستنكرا كلام الشيخ الزنكلوني أشد الاستنكار، ونصحاه بالصبر على أذاه، واحتساب أجره عند الله.

فكتب الشيخ حامد الفقي –رحمه الله- مقالة رائعة دافع فيها عن نفسه، وعاتب فيها شيخه الزنكلوني بعبارات يفوح منها عبق الأدب والاحترام والتقدير لذلك الشيخ الكبير، فكان مما قال:

(وإني أحمد الله إذ وفقني وأسأله أن يوفقني دائما إلى الهدوء والتثبت، ويَقيني شر الغرور بالنفس والانخداع بالظواهر، ويكرمني بخير الخصال، من التواضع للعلم، وأن أتّهم رأيي دائما، فلا أتقدم إلا حيث أجد الخير في التقدم، بعد التروِّي وبحث الموضوع من جميع نواحيه جهد الطاقة وقدر المستطاع، واستشارة من أعرف من المجرّبين الناصحين المخلصين، ثم أستخير ربي بعد ذلك في التقدم إلى تنفيذ ما أشار إليه الناصحون، ولقد رأيت كثيرا ما جرّ التسرع وسبق اللسان على صاحبه من ندم طويل وعناء كثير.
وإني بعد أن قرأت كتاب شيخنا الكبير الزنكلوني مراراً فلم أجده بيّن لي ناحية من نواحي الخطأ العلمي، ولا حدد لي فيه زلّة في العقيدة، ولا أوقفني على كبوةٍ دينية بعينها خالفت في شيء من هذا كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وهدي أئمتنا المهتدين –رضي الله عنهم-.
ولم يعدُ كتابه الطويل أن تناول شخصي الضعيف بكلام، الله أعلم بحقيقته، وحكمه إلى ربي الذي عليه توكلت وإليه أنيب، والذي يعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، والذي يجزي كل نفس بما كسبت يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه.

أيها الشيخ الزنكلوني الكبير...
إني أحترم شيبتك، وأوقر شيخوختك، وأرحم وهن عظمك، وتناوب الأمراض عليك –عافاك الله وشفاك وقواك- وأقدِّر كل تقدير مع كل هذه الاعتبارات حالتك النفسية وما يكون لها بسُنة الله التي لا تتبدل من التأثير على الأعصاب، خصوصا أعصابك، وأستحضر مع هذا أيضاً ما تكرره –فضيلتك- في مجالسك عن الفيلسوف (لامبير) وما أصابه من تهدم أعصابه واضطرابها لحادثة موت امرأته؛ وتدليل –فضيلتكم- بذلك على أن الرجل مهما كان عظيما فإن الحوادث تؤثر على تفكيره، وتوهن من قواه العقلية، فتلتمس له الأعذار إذا هو هفا بما لم يكن متصوراً منه من قبل إصابته بالكوارث والحوادث المنهكة.

لذلك كله أقول لشيخنا الكبير الزنكلوني في يقينٍ ورضا واطمئنان:
غفر الله لنا ولك، وعفا الله عنا وعنك، ورزقنا الله وإياك الصدق في القول والإخلاص في العمل، وشغلنا الله وإياك بما يعيننا وينفعنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا، وحسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم..). ]1[ .
قلت (أبو عمر) :
يستفاد من هذه القصة المختصرة النفيسة:
1-احترام العالم وتوقيره وإن أساء وظلم، وتنزيله منزلته العلية التي آتاه الله إياها.
2-التماس العذر للعالم الكبير، وتفتيش الأعذار عن أخطائه وزلاته ووهمه، ومراعاة كبر سنه وشيخوخته.
3-التأدب والتلطف مع العالم في مقام الرد، وعدم الحط من قدره، قال الحافظ الذهبي –رحمه الله-: (إن الكبير من العلماء إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلَلـه، ولا نضلله ولا نطرحه وننسى محاسنه).
4-الرجوع إلى العلماء عند الفتن، والسعي لإطفاء نيرانها.

الله أسأل أن يجملنا وإياكم بمحاسن الأخلاق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

------------------------------------
]1[ مجلة الهدي النبوي العدد 30 لعام 1385 هـ / صـ25-26 (مقال: وأن تعفو أقرب للتقوى ، ولا تنسوا الفضل بينكم)

http://bomaralhazza.blogspot.com/