يجب على المسلم أن يميِّز بين ما أمر الله به أو أذن فيه، وبين ما نهى عنه أو كرهه، فيلزم الأول على كلِّ حال، ويجتنب الثاني على كل حال، ويحتاط فيما لم يتبيَّن له حُكْمه.

وعليك أن توطِّن نفسَك على حبّ الخير للخلق أجمعين، حتى إذا كرهت كافرًا أو مبتدعًا أو فاسقًا فلا تكرهه إلا لأنك تحبّ له أن يدع ما يضره، ويلتزم ما ينفعه.

وهذا زمان قد صِرْنا فيه - أو كدنا - إلى ما ورد في الحديث: "شُحّ مُطاع، وهوًى مُتّبع، وإعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه" (1).
فأحب لك أن تجتنب المخاصمات التي لا ترجو لها فائدة.
وإن مما هو من جهةٍ نعمةٌ عظيمةٌ من الله تبارك وتعالى على هذه الأمة، ومن جهةٍ أخرى حُجةٌ بالغة له سبحانه: أنْ كانت عامة المُحْدَثات التي نقول: إنها بدع ضالة، ومنها ما هو شرك بالله عزَّ وجلَّ = ليس فيها ما يقول أحدٌ: إنه ركن، أو شرط للإيمان، ولا فرض لازم، ولا سنَّة مؤكدة؛ بل غاية ما يزعم بعضهم: أنه مما يُرْجى له ثواب وبركة.

وقد قال مَن هو أعلم من هذا بكتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله وأقوال سلف الأمة: إن ذلك بدعة مضلة،ومنه ما هو شرك.
ومع هذا فهناك أعمال كثيرة ثابت أنها مشروعة ، وأن ثوابها أعظم، وبركتها جليلة، ودلَّ الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمة وأئمتها على ذلك؛ فالمخذول كلّ الخذلان، والمحروم كلّ الحرمان، والخارج عن طريق العلم والإيمان والعقل والفهم = هو مَن يُقْدِم على شيء من تلك المحْدَثات، ويتشاغل بها، في حين أنه يمكنه صرف ذلك الوقت في الأعمال والأقوال الشرعية الثابتة، والثابتِ عظيمُ ثوابها وبركتها.

وإذا أجمع الأطباء على شيء أنه دواء نافع، واختلفوا في شيء فقال بعضهم: إنه مهم، وقال بعضهم: ضارٌّ ضررًا شديدًا، وقال بعضهم: لا يتحقَّق ضرره، وقال بعضهم: ربما يكون له نفع ما، ولكنه لا حاجة إليه للاستغناء عنه بالمجمع عليه = فالعاقل يستغني بالمجمع عليه، ويتجنب المختلف فيه.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشُّبهات فقد استبرأ لعقله ودينه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يوشكُ أن يقع فيه" (3).

هذا في الحلال والحرام، فأما في الإيمان والشرك فالأمر أعظم، وكلُّ عاقل يبلغه كلام أهل العلم، لا بدّ أن يكون محتملًا عنده، وعلى الأقل في كثير من تلك المحْدَثات أنها شرك، كما صرَّح به جَمْع من أكابر العلماء.

والمؤمن لا يمكن أن يقدم على ما يحتمل عنده أنه شرك، هذا مع أنه ليس في الإقدام عليه لذة طبيعية، إلا أن يكون اتباع الهوى، فإن الراغب في الثواب والبركة يجد ما هو باعتراف ألدِّ أنصار المحْدَثات أعظم أجرًا وبركة.

فلو سألت أحدهم عن الصلاة على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالصيغة الإبراهيمية المأثورة، أهي أفضل أم قول القائل: "يا رسول الله"؟ لاعترف لك بأن البَونَ بعيد جدًّا، فإن فضل تلك الصلاة وثوابها وبركتها عظيم جدًّا، وأما قول: "يا رسول الله"، فغايته أن يدَّعي بعضُ أنصار البدع أنه لا بأس به، وقِسْ على هذا سائر المحدثات.

فإذا بيَّنتَ هذا المعنى لرجل وأصرَّ على ترك اجتناب المحْدَثات فقد قُمتَ بالحجة، وإذا اجتنبْتَ المحدثات فاعترض عليك معترض فبيَّنْتَ له هذا المعنى، فقد أَبطلْتَ اعتراضَه ولزمه التسليم لك إن كان له عقل.

ولا حاجة بك بعد هذا إلى المحاجّة في تلك المحْدَثات أَشِركٌ هي أم لا، ولا إلى سَرْد الحجج وإبطال الشبه؛ بل يكفيك الاستناد إلى ما تقدم.
ولا بأس بعد ذلك أن تقول لمن نازعك: ليس عندي من العلم ما أتمكَّن به من المناظرة والمحاجّة، ولكنني أعلم أن الواجب على الناس ترك المحدثات، فإن لم يستغنوا ببطلانها وأن منها ما هو شرك، فإنهم يعرفون من اختلاف العلماء احتمال ذلك، فوجَب عليهم اجتناب ما يخافون أن يكون شركًا، وقد علموا أنه - على فرض صحة ما يزعم أنصار البدع - لا حاجة إليه، فإنّ في العبادات الشرعية العظيمة الأجر والثواب والبركة ما يغني عنه،ولا ينبغي لعاقل أن يدَعَ ما عُلم بالإجماع والنصوص القاطعة أنه إيمان، ويتشاغل بما يحتمل على الأقل أن يكون شركًا.

منتقى من وصيَّة الشيخ المعلِّمي لتلميذه محمد بن أحمد المعلِّمي
------------------------
(1) أخرجه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وابن ماجه (4514)، وابن حبان (385) وغيرهم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم