الحمد لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإنّ من حفظ الله تعالى للسُّنّة أن قيَّض لها حُرَّاسًا على قلعتها رابطوا على ثغورها، ولم يدّخروا وُسعًا في حمايتها والذبّ عنها، فعنوا بتتبع أخبارها وآثارها، وفتّشوا عن رواتها، فشدّوا رحالهم وحثّوا ركابهم وشمَّروا عن سواعدهم، وجرَّدوا أقلامهم، فأثمر ذلك الحرث المبارك ــ بفضل الله تعالى ثمّ بجهودهم ــ عن كتب الصحاح والسنن والمسانيد والموطّآت والأجزاء؛ فكانت ميراثًا عظيمًا من بعدهم، فتناولوا ذلك بالشروح والحواشي والتعاليق، فبيَّنوا الصحيح ليحتذى والضعيف ليُتّقى.

وقل مثل ذلك أو زد عليه فيما يتعلق برواة الأحاديث والأخبار؛ تتبعوا رواياتهم وشيوخهم وتلاميذهم فتكاثرت مصنفاتهم في شأن الرواة وطبقاتهم وبيان مراتبهم وأزمنتهم وأمكنتهم، ناهيك عن بيان يقينهم من وهمهم، وثقتهم من ضعيفهم؛ كل ذلك باستقراء عظيم وتتبّع سديد.

فأضحت أمّة الإسلام تفاخر بعلماء الحديث وحفّاظه من المتقدِّمين والمتأخِّرين، تلك الثلة المباركة التي ورّثت خزائن مكتبات الإسلام مصنّفات لا يُحصيها ديوان كاتب، ناهيك عن المفقود والمعدوم.

تلك المصنفات التي تُعنَى بالسنّة والبحث في متونها وأسانيدها عمومًا وخصوصًا وإجمالاً وتفصيلاً، فرحمهم الله تعالى وجزاهم عن الإسلام والسنّة والمسلمين خيرًا.

وإذا كان ذلك كذلك؛ فتلك المصنفات حَريَّةٌ بأن تُشرِّف الثناء لا أن تَشرُف بالثناء، وكيف لا يكون ذلك وهي تُعنى بشأن السنّة النبوية تدوينًا وترتيبًا وحفظًا من الدخيل والعليل؟

وقد حظيت تلك المصنفات بالثناء عليها ــ كما سبق ــ وذِكر محاسنها، وكثر الثناء على مصنفات وقلّ في أخرى، وبعضها بين ذلك قوامًا، والثناء على تلك المصنفات على قسمين:

الأول: ثناء من غير مصنِّفيها، وهذا هو الأصل أو الغالب، ومثال ذلك:

رسالة «خصائص مسند الإمام أحمد» لأبي موسى المديني، فقد ذكر ونقل فيها ثناءً على «المسند».

ومن ذلك ثناء كثير من أهل العلم على الصحيحين.

والثناء على «سنن أبي داود» من ابن الأعرابي والخطيب وابن عبدالبرّ وغيرهم.

والثناء على «سنن الترمذي» من الخليلي وابن رشيد والهروي وأبي طاهر السِّلفي وغيرهم.

والثناء على «سنن النسائي» من ابن حزم وأبي طاهر السِّلَفي وأبي الحسن المعافري.

والثناء على «سنن ابن ماجه» من أبي زرعة وابن طاهر.

والثناء على «الموطأ» لمالك من الشافعي وغيره.

الثاني: ثناء عليها من مصنِّفيها ــ وهو محلّ البحث ــ، ومن أمثلة ذلك:

قول الإمام أحمد عن «مسنده»: «إنّ هذا الكتاب قد جمعته وأتقنته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفًا، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله ﷺ فارجعوا إليه؛ فإن كان فيه وإلاّ فليس بحجّة».

وقول الإمام الترمذي: «من كان هذا الكتاب ــ يعني «جامعه» ــ في بيته فكأنما في بيته نبيٌّ يتكلم».

وقول ابن الأثير عن كتابه «جامع الأصول»: «... على أنّ هذا الكتاب في نفسه بحرٌ زاخرةٌ أمواجُه، وبَرٌّ وَعِرةٌ فِجاجُه، لا يكاد الخاطرُ يجمع أشتاته، ولا يقوم الذِّكْر بحفظ أفراده، فإنها كثيرة العدد، متشعِّبة الطرق، مختلفة الرِّوايات، وقد بذلتُ في جمعها وترتيبها الوُسع، واستعنتُ بتوفيق الله تعالى ومعونته في تأليفه وتهذيبه، وتسهيله وتقريبه»([1]).

وقول ابن الملقّن عن كتابه «البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير»: «... بتأليف كتاب نفيس لم أسبق إلى وضعه، ولم ينسج على منواله وجمعه»([2]).

وقول ابن حجر العسقلاني في مقدّمة كتابه «الإصابة»: «.. وهذا القسم الرابع لا أعلمُ من سبقني إليه، ولا من حامَ طائرُ فِكره عليه، وهو الضالّة المطلوبة في هذا الباب الزاهر، وزُبدة ما يمخضه من هذا الفنّ اللبيب الماهر».

ومن باب الاستطراد للفائدة في هذا المبحث أورد شيئًا من كلام الإمام ابن القيِّم عن بعض كتبه، وهو يُكثر من ذلك وحُقّ له ولا تثريب عليه، فكتُبه في غاية التحقيق، فقد قال في آخر مقدمة كتابه «طريق الهجرتين»: «فجاء الكتاب غريبًا في معناه، عجيبًا في مغزاه، لكلّ قومٍ منه نصيب، ولكلّ واردٍ منه مشرب..»([3]).

وقال بعد كلامه على حديث طلاق ابن عُمر ا: «... فهذه كلمات نبَّهنا بها على بعض فوائد ابن عمر، فلا تستطلها فإنها مشتملةٌ على فوائد جمَّة، وقواعد مهمَّة، ومباحث لمن قصده الظفر بالحقّ وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، من غير ميل مع ذي مذهبه، ولا خدمةً لإمامه وأصحابه، بحديث رسول الله ﷺ، بل تابع للدليل، حريص على الظفر بالسنّة والسبيل، يدور مع الحقّ أنّى توجَّهت ركائبه، ويستقرّ معه حيث استقرَّت مضاربه، ولا يعرفُ قدْرَ هذا السير إلّا من علت همّتُه، وتطلّعت نوازع قلبه، واستشرفت نفسُه إلى الارتضاع من ثدي الرسالة، والورود من عين حوض النبوَّة، والخلاص من شِباك الأقوال المتعارضة والآراء المتناقضة إلى فضاء العلم الموروث عمَّن لا ينطق عن الهوى، ولا يتجاوز نطقه البيان والرشاد والهدى، وبيداء اليقين التي من حلّها حُشد في زُمرة العلماء وعُدّ من ورثة الأنبياء...»([4]).

وقال رحمه الله تعالى في آخر مفتتح كتابه «حادي الأرواح»([5]): «وهذا كتابٌ اجتهدتُ في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه؛ فهو للمحزون سَلوة، وللمشتاق إلى تلك العرائس جَلوة، محرِّكٌ للقلوب إلى أجل مطلوب، وحادٍ للنفوس إلى مجاورة الملك القدّوس، ممتع لقارئه، مشوِّق للناظر فيه، لا يسأمه الجليس، ولا يمله الأنيس، مشتمل من بدائع الفوائد وفرائد القلائد، على ما لعل المجتهد في الطلب لا يظفر به فيما سواه من الكتُب، مع تضمينه لجملة كثيرة من الأحاديث المرفوعات والآثار الموقوفات والأسرار المودعة في كثير من الآيات، والنكت البديعات، وإيضاح كثير من المشكلات، والتنبيه على أصول من الأسماء والصفات، إذا نظر فيه الناظر زاده إيمانًا، وجلّى عليه الجنة حتى كأنه يشاهدها عَيانًا، فهو مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات، وباعث الهمم العليَّات إلى العيش الهنيء في تلك الغرفات، وسمَّيته «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»، فأنه اسمٌ يُطابِق مسمَّاه، ولفظ يوافق معناه..».

وقال في كتابه «مدارج السالكين» في آخر كلامه عن بعض لطائف أسرار التوبة: «فهذه نبذة من بعض لطائف أسرار التوبة لا تستهزئ بها، فلعلك لا تظفر بها في مصنَّف آخَر البتّة»([6]).

بعد هذا يقال:

قد يشكل على بعض القرَّاء مثل ذاك الثناء من المصنف على كتابه على أنه من تزكية النفس وما يتعلق بها، والجواب فيما يظهر لي من أربعة وجوه:

الوجه الأول: أنّ ذلك من التحدّث بنعمة الله تعالى إذا أمن الإنسان على نفسه العُجب، وأحسب أنّ علماء الأمة الكبار هم من هذا القبيل، على الجميع رحمة الله تعالى.

ويدخل تحت مبحث تزكية الإنسان لنفسه إذا أمن العجب وكان في ذلك مصلحة.

الوجه الثاني: أنّ ذلك من باب تنبيه القارئ والسامع على الجهد المبذول في المسألة، فيزداد
ــ القارئ والسامع ــ طمأنينةً إلى النتيجة التي وصل إليها المؤلف في مصنفه ذاك.


الوجه الثالث: أنّ بعضهم سلف لبعض في ذلك، وهم من أورع الناس في ديانتهم وأمانتهم، ولو كان في ذلك محذورٌ لكانوا أبعد الناس عنه.

الوجه الرابع: ليُعنى من أراد التصنيف ببذل الجهد في كتابته وبحثه؛ لأنه كما قيل: «من صنف فقد عرض عقله على الناس في طبق».


وممّا يحسن ختم هذا البحث به كلامٌ سديد من الشيخ ابن عثيمين ــ رحمه الله تعالى ــ ذكره في معرض ثناء الشيخ ابن سعدي ــ رحمه الله تعالى ــ على بعض كتبه

فكان مما ذكره الشيخ ابن عثيمين قوله: «وثناء شيخنا عبدالرحمن ابن سعدي على كتابه ليس بغريب؛ لأنّ ثناء أهل العلم على مؤلفاتهم لا يقصدون به الفخر والتفاخر على الخلق، إنما يقصدون شدّ الناس إلى قراءتها والالتفاف حولها، وله من سلف الأمة قدوة بقول ابن مسعود ا: لو أعلم أنّ أحدًا تناله الإبل أعلم بكتاب الله منِّي لرحلتُ إليه. كذلك ثناء ابن مالك على «ألفيته»».




د. عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله السدحان












([1]) «جامع الأصول في أحاديث الرسول» (1/52).

([2]) «البدر المنير» (1/281).

([3]) «طريق الهجرتين» (ص9).

([4]) «تهذيب السنن» (3/111).

([5]) (ص32-33).

([6]) «مدارج السالكين» (1/227).