قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
"إنَّ الظُّنُونَ وَالتَّقْدِيرَا تِ غَيْرَ الْمُحَقَّقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قِسْمِ التَّوَهُّمَاتِ ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ؛ فَإِنَّهَا تُقَدِّرُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا؛ فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ إِلَّا فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ2 أَوْلَى مَا لَمْ يؤدِّ ذَلِكَ إِلَى دَخْلٍ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَوْ دِينِهِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إِلَّا مَنْ يُطِيقُهُ، فَأَنْتَ تَرَى بِالِاسْتِقْرَا ءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لَا يَلْحَقُ بِهَا تَوَهُّمُهَا بَلْ حُكْمُهَا أَضْعَفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِذًا لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ؛ كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ لَازِمٍ، إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْمَظِنَّةُ -وَهِيَ السَّبَبُ3- مَقَامَ الْحِكْمَةِ؛ فَحِينَئِذٍ يكون السَّبَبُ مُنْتَهِضًا عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى اللُّزُومِ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ عَلَى كَمَالِهَا؛ فَالْأَحْرَى الْبَقَاءُ مَعَ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا؛ فَالْمَشَقَّةُ التَّوَهُّمِيَّ ةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْمَشَقَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ , وَالْحَقِيقِيَّ ةُ لَيْسَتْ فِي الْوُقُوعِ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنًا.
وَأَمَّا الرَّاجِعَةُ إِلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ خُصُوصًا؛ فَإِنَّهَا ضِدُّ الْأُولَى؛ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ وَضْعِ الشَّرَائِعِ إِخْرَاجُ النُّفُوسِ عَنْ أَهْوَائِهَا وَعَوَائِدِهَا، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي شَرْعِيَّةِ الرُّخْصَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَنْ هَوِيَتْ نَفْسُهُ أَمْرًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَذَرَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ لِيَتَرَخَّصَ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 49] ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ الْأَصْفَرِ؛ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 81] ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ الصَّحِيحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات؛ فَبَيَّنَ أَهْلَ الْأَعْذَارِ هُنَا، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الْجِهَادَ، وَهُمُ الزَّمْنى، وَالصِّبْيَانُ، وَالشُّيُوخُ، وَالْمَجَانِينُ ، وَالْعُمْيَانُ، وَنَحْوُهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَةً أَصْلًا, وَلَا وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَقَالَ فِيهِ: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] ، وَمِنْ جُمْلَةِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُبْقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بَقِيَّةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ؟ [التَّوْبَةِ: 41] وَقَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الْآيَةَ [التوبة: 39] ؛ فما ظنك بمن كان عُذْرُهُ هَوَى نَفْسِهِ؟!
نَعَمْ، وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ تَابِعَةً لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِي شَهَوَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَتَنَعُّمَاتِه ِمْ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إِلَى مَفْسَدَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهَا عَنْهُ التَّمَتُّعُ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْدُودِ لَهُ؛ فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهُ ابْتِدَاءً رُخْصَةَ السَّلَم، والقِرَاض، وَالْمُسَاقَاةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَانِعٌ فِي قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَأَحَلَّ لَهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَمَتَى جَمَحَتْ نَفْسُهُ إِلَى هَوًى قَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا وَإِلَيْهِ سَبِيلًا فَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ بَابِهِ؛ كَانَ هَذَا هَوًى شَيْطَانِيًّا وَاجِبًا عليه الانكفاف عَنْهُ؛ كَالْمُولَعِ بِمَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَلَا رُخْصَةَ لَهُ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا هِيَ عَيْنُ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الرُّخَصِ الْمُتَقَدِّمَة ِ، فَإِنَّ لَهَا فِي الشَّرْعِ مُوَافِقَةً إِذَا وُزِنَتْ بِمِيزَانِهَا.
فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَشَقَّةَ مُخَالَفَةِ الْهَوَى لَا رُخْصَةَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِيهَا الرُّخْصَةُ بِشَرْطِهَا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا؛ فَالْأَحْرَى بِمَنْ يُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَخَلَاصَ نَفْسِهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرَوِيَّة َ تَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ النَّدْبِ، وَتَارَةً تَكُونُ من باب الوجوب، والله أعلم"
الموافقات 1/ 514 -517 تحقيق مشهور