قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
قوله: «إن العقل أصل للنقل» إما أن يريد به: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، أو أصل في علمنا بصحته.
والأول لا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت، سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علمًا بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسنا؛ فما أخبر به الصادق المصدوق ﷺ هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه.
ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله، فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما اخبر به في نفس الأمر، ليس موقوفًا علي وجودنا، فضلًا عن أن يكون موقوفًا علي عقولنا، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا.
وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه.
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلًا لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطيًا له صفة لم تكن له، ولا مفيدًا له صفة كمال؛ إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثرًا فيه.
فإن العلم نوعان:
أحدهما: العملي، وهو ما كان شرطًا في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف علي العلم به محتاج إليه.
والثاني: العلم الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلي العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة؛ سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالمًا به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكن جاهلًا ناقصًا.
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا علي صحته - وهذا هو الذي أراده - فيقال له: أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا، أم العلوم التي استفدنا بتلك الغريزة؟
وأما الأول فلم تُرِدْهُ، ويمتنع أن تريده؛ لأن تلك الغريزة ليست علمًا يتصور أن يعارض النقل، وهو شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة، وما كان شرطًا في الشيء امتنع أن يكون منافيًا له، فالحياة والغريزة شرط في كل العلوم سمعيها وعقليها، فامتنع أن تكون منافية لها، وهي أيضًا شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال، وإن لم تكن علمًا، فيمتنع أن تكن منافية له ومعارضة له.
وإن أردت بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل، فيقال لك: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلًا للسمع ودليلًا علي صحته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف علي ما به يُعلم صدق الرسول ﷺ.
وليس كل العلوم العقلية يُعلم بها صدق الرسول ﷺ؛ بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله، مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلًا للنقل، لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها، ولا بمعنى الدلالة علي صحته، ولا بغير ذلك»اهـ.([1])
[1])) «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 87- 90) مختصرًا.