هذا بحث ناقش فيه صاحبه قول الشيخ العثيمين في ترجيحه أن الحديث القدسي من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه من عند الله،
مناقشة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فيما ذهب إليه من الفرق بين القرآن والحديث القدسيأيها الأخوة الكرام : أطرح بين يديكم مناقشة لرأي الشيخ ابن عثيمين في الفرق بين القرآن والحديث القدسي خاصة مسألة أن لفظ الحديث القدسي من الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو الرأي السائد والمنتشر في أكثر كتب علوم القرآن ومصطلح الحديث قصدت منه بيان ما توصلت إليه , وسماع آراء بقية إخواننا إما بذكر ما يمكن ذكره في تقوية ما ذهبت إليه أو تضعيفه سدد الله على الخير خطاكم , فأقول مستعينًا بالله:
القرآن هو كلامُ الله المنزَّلُ على محمّد صلى الله عليه وسلم المُتَعَبَّدُ بتلاوتِه .( )
والقُدْسِيُّ نسبةٌ إلى: القُدُسْ، وهي نسبةٌ تدلُّ على التعظيم ؛ لأنّ مادّةَ الكلمةِ دالَّةٌ على التنزيهِ والتطهيرِ في اللغةِ( )، ويُسمَّى: الحديث الإلهيُّ؛ نسبةً إلى الإله المعبودِ، ويُسمَّى: الحديث الربانيُّ؛ نِسْبَةً إلى الرَّبِّ.
وعرّفه الشيخُ ابن عثيمين بقوله :"ما رواه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّهِ تعالى، ويُسمَّى أيضًا: الحديث الربّانيّ ، والحديث الإلهيّ".( )
وقد ذكر الشيخُ ابن عثيمين الفَرْقَ بينَ القرآنِ والحديثِ القُدْسِيِّ في مَواضعَ متعدّدةً مِن كُتُبِهِ فقال :" وقد اختلفَ العلماءُ في لَفْظِ الحديثِ القُدْسيِّ : هل هو مِن كلامِ الله تعالى أو أنّ الله تعالى أَوْحَى إلى رسولِه صلى الله عليه وسلم مَعْنَاه ؛واللفظُ لَفْظُ رسولِ الله؟ على قولينِ:
القول الأول: إنّ الحديثَ القُدْسيَّ مِن عند الله لَفْظُهُ ومعناهُ ، لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أضافهُ إلى الله تعالى ، ومِن المعلومِ أنّ الأصلَ في القولِ المضافِ أنْ يكونَ بِلَفْظِ قائِله لا ناقلِه ، لا سيَّمَا أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقوى الناسِ أمانةً وأوثقهم روايةً .
القول الثاني: إنّ الحديث َ القُدْسِيَّ معناه مِن عند الله ،ولفظهُ لفْظُ النبيِّ ، وذلكَ لوجهين: الوجه الأول : لو كانَ الحديث القُدْسِيُّ مِن عند الله لفظًا ومعنىً ؛ لكانَ أعلى سندًا مِن القرآنِ ؛ لأنّ النبيَّ يرويه عن رَبِّهِ تعالى بدونِ واسطةٍ ،كما هو ظاهر السياقِ ، أمّا القرآنَُ فنزلَ على النبيِّ بواسطةِ جبريلَ ،كما قال تعالى : قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ (النحل:من الآية102) وقال :نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء:193- 195) .
الوجه الثاني : أنّه لو كانَ لفظُ الحديث القُدْسِيِّ مِن عند الله ؛ لَمْ يكنْ بينهُ وبينَ القرآنِ فَرْقٌ ؛ لأنّ كِلَيْهِمَا على هذا التقديرِ كلامُ الله تعالى ، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكمِ حينَ اتّفقَا في الأصلِ ، ومِن المعلومِ أنّ بينَ القرآنِ والحديث القدْسِيِّ فروقًا كثيرة :
منها: أنّ الحديث القُدْسِيَّ لا يُتعبَّدُ بتلاوتهِ، بمعنى أنّ الإنسانِ لا يَتعبَّدُ الله تعالى بِمجرَّدِ قراءتهِ ، فلا يُثابُ على كُلِّ حرفٍ مِنهُ عشرَ حسناتٍ ، والقرآنُ يتعبَّدُ بتلاوتهِ بكلِّ حرفٍ مِنه عشر حسناتٍ .
ومنها : أنّ الله تحدَّى أنْ يأتِيَ الناسُ بمثلِ القرآنِ أو أيةٍ مِنه ، ولم يَرِدْ مثلُ ذلكَ في الأحاديثِ القُدْسيَّةِ .
ومنها : أنّ القرآنَ مَحفوظٌ مِن عند الله ،كما قال سبحانه :إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9) والأحاديثُ القُدْسيَّةُ بخلافِ ذلكَ ؛ ففيها الصحيحُ والحَسَنُ ، بل أُضِيفَ إليها ما كانَ ضعيفًا أو مَوضوعًا ، وهذا وإنْ لم يكنْ مِنها لكن نُسِبَ إليها وفيها التقديمُ والتأخيرُ والزيادةُ والنقصُ .
ومِنها : أنّ القرآنَ لا تجوزُ قراءتهُ بالمعنى بإجماعِ المسلمينَ ، أمّا الأحاديثُ القُدْسيَّةُ فعلى الخلافِ في جوازِ نقلِ الحديثِ النبويِّ بالمعنى ، والأكثرونَ على جوازه .
ومنها : أنّ القرآنَ تُشرع قراءتهُ في الصلاةِ ؛ ومِنه ما لا تصحُّ الصلاةُ بدونِ قراءتهِ ، بخلافِ الأحاديثِ القُدْسيَّةِ .
ومنها : أنّ القرآنَ لا يَمسُّهُ إلاّ طاهرٌ على الأصحِّ ، بخلاف ِالأحاديثِ القُدْسيَّةِ .
ومنها : أنّ القـرآنَ لا يقرؤهُ الجُنُبُ حتّى يغتسلَ على القولِ الراجـحِ ، بِخلاف الأحاديثِ القُدْسيَّةِ .
ومنها : أنّ القرآنَ ثَبَتَ بالتواترِ القطْعِيِّ المفيدِ للعلمِ اليقينيِّ ، فلو أَنْكَرَ حرفًا أجمعَ القرَّاءُ عليهِ لكانَ كافرًا ، بخلافِ الأحاديثِ القُدْسيَّةِ ؛ فإنّهُ لو أنكرَ شيئًا منها مُدَّعيًا أنّه لَمْ يَثْبُتْ لم يكفر ، أمّا لو أنكرهُ مع علمهِ أنّ النبيَّ قَالَهُ لكانَ كافرًا لتكذِيبهِ النبيَّ.
وأجابَ هؤلاءِ عن كَوْنِ النبيِّ أضافهُ إلى الله – والأصلُ في القولِ المضافِ أنْ يكونَ لَفْظُ قائلِه – بالتسليمِ أنّ هذا هو الأصلُ ، لكن قد يُضافُ إلى قائلِه معنىً لا لفْظًا ، كما في القرآنِ الكريمِ ، فإنّ الله تعالى يُضيف أقوالاً إلى قائليها ، ونحن نعلمُ أنّها أُضيفتْ معنىً لا لفظًا ، كمـا في قَصَصِ الأنبياءِ وغيرهم ، وكـلام الهدهد والنملة ، فإنّه بغير هذا اللفظِ قطعًا .
وبهذا يتبيَّنُ رُجحانِ هذا القولِ ، وليسَ الخلافُ في هذا كالخلافِ بينَ الأشاعرةِ وأهل السنّةِ في كلامِ الله تعالى ، لأنّ الخلافَ بين هؤلاءِ في أَصْلِ كلامِ الله تعالى ، فأهلُ السنّةِ يقولونَ : كـلامُ الله تعالى كلامٌ حقيقيٌّ مَسموعٌ يتكلّمُ سبحانهُ بصوتٍ وحَرْفٍ ، والأشاعرةُ لا يُثبتونَ ذلكَ ؛ وإنّما يقولونَ : كلامُ الله تعالى هو المعنى القائمُ بنفسهِ ، وليسَ بحَرْفٍ وصوتٍ ، ولكنّ الله تعالى يخلقُ صوتًا يُعبِّرُ به عن المعنى القائمِ بنفسهِ ، ولا شكَّ في بُطلانِ قولهم ، وهو في الحقيقةِ قولُ المعتزلةِ ؛ لأنّ المعتزلةَ يقولونَ : القرآنُ مَخلوقٌ ، وهو كلامُ الله ، وهؤلاءِ يقولونَ : القرآنُ مَخلوقٌ ، وهو عبارةٌ عن كلامِ الله ، فقد اتّفقَ الجميعُ على أنّ ما بينَ دّفَّتَيْ المصحف مَخلوقٌ ، ثم لو قيلَ في مسألتنا – الكلامُ في الحديثِ القُدْسِيِّ – إنّ الأَوْلَى تركُ الخوضِ في هذا ، خوفًا مِن أنْ يكونَ مِن التنَطُّعِ الهالكِ فاعلُهُ ، والاقتصارُ على القول : بأنّ الحديثَ القُدْسِيَّ ما رواه النبيُّ عن رَبِّهِ وكفى ، لكانَ كافيًا ، ولعلّه أَسْلَمُ والله أعلمُ ".( )
وفي مَوضعِ آخر قال :" الأحاديثُ القدسيّةُ لا تَثْبُتُ لها أحكامُ القرآنِ :
-فيجوزُ مَسُّهَا بلا طهارةٍ
-ويجوز للجُنُبِ والحائضِ قراءتها .
-ولا تُقرأُ في الصلاةِ .
-ويَصِحُّ بيعها .
-والسفرُ بها إلى أرضِ العدوِّ .
-ولا يُتعبّدُ بتلاوتها .
-وتُروَى بالمعنى .
واخْتُلِفَ هل هي مَنسوبةٌ إلى الله لفظًا ومعنىً ، أو لفظًا فقط ؟
والصحيحُ أنّها مِن كلامِ الله معنىً ، واللفظُ مِن الرسولِ ، فاللفظُ مَخلوقٌ والمعنى غيرُ مَخلوقٍ ، إذ لو كانت مِن كلامِ الله لفظًا لكانت مُعجزةً ؛ لأنّ كلامهُ تعالى لا يُشبه كلامَ البَشَرِ ، وأيضًا لو كانت مِن كلامِ الله لما حصلَ الاختلافُ في ألفاظِ روايتها ؛ لأنّ كلامهُ تعالى مَحفوظٌ ، ولهذا لا يُزاد في القرآنِ ولا يُنقص .
فإنْ قالَ قائلٌ : إنّ النبيَّ يَنسُب القولَ فيها إلى الله ، وإذا نُسِبَ القولُ إلى قائلهِ كانَ قولاً لهُ لفظًا ومعنى ؟
فالجوابُ : أنّ هذا صحيحٌ ، وأنّ هذا هو الأصلُ ما لم يمنعَ مِنه مانعٌ ، وهُنا قد مَنَعَ مِنه مانعٌ ؛ وهو أنّه لو كانَ كلامَ الله لفظًا ومعنىً لَثَبَتَتْ لهُ أحكامُ القرآنِ ؛ لأنّ الشريعةَ لا تُفرِّقُ بينَ مُتماثلينِ ، ولا غرابةَ أنْ يُنسبَ القولُ إلى قائلهِ باعتبارِ معناه فإنّ جميعَ ما في القرآنِ مِن الأقوالِ المنسوبةِ إلى الرُّسُلِ السابقينَ وأُمَمِهم كلّها مَنسوبةٌ لهم باعتبار المعنى ؛ لأنّها بلفظٍ عربيٍّ وتلكَ الأُمَمُ ليسَ لسانها عربيًّا ، وأيضًا فإنّ الله يذكرُ القولَ عن قائلهِ بلفظٍ مُختلفٍ لمناسبةِ أسلوبِ القرآنِ ؛ كما في قوله عن سَحَرَةِ آل فرعونَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِين رَبَّ مُوسَى وَهَارُونَ وقال في آيةٍ أخرى :فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى فقدَّمَ هارونَ على مُوسَى لِتَنَاسُبِ رؤوسَ الآيِ".( )
وفي مَوضعٍ آخر قال :" والبحثُ في الحديثِ القُدْسِيِّ هل هو مِن كـلامِ الله لفظًا ومعنىً ، أم هو مِن كلامِ الله معنىً لا لفظًا ؟
فالجوابُ : الأخيرُ أَقْرَبُ ، لما يلي :
أولاً : أنّه لا يُتعبّدُ بلفظهِ ،بمعنى أنّكَ لا تَتعبّدُ بتلاوتهِ ، فلو كانَ كلامَ الله لفظًا لكانَ مُتعبّدًا بتلاوتهِ كالقرآنِ .
ثانيًا : أنّه لو كانَ مِن كلامِ الله لفظًا لَجازتْ قراءتهُ في الصلاةِ كالقرآنِ .
ثالثًا : أنّه لو كانَ مِن كلامِ الله لفظًا لكانَ مُعجزًا كالقرآنِ .
رابعًا : أنّه لو كانَ مِن كلامِ الله لفظًا لكانَ أعلى سندًا مِن القرآنِ ؛ لأنّ سندَ القرآنِ فيهِ بينَ الرسولِ وبينَ ربِّهِجبريلُ ، وهذا يقولهُ الرسولُ عن الله مُباشرةً كما يظهر مِن لفظهِ ،ولا يُمكن أنْ يكونَ الحديثُ القدسيُّ أعلى سندًا مِن القرآن. وقالَ بعضُ أهل العلمِ : إنّنا نقولُ كما قالَ النبيُّ [ قالَ الله ] ، ولا نبحثُ هل لفظهُ مِن كلامِ الله أو مِن كلامِ النبيِّ .
ولكنّ القرآنَ لا شكَّ أنّهُ أعلى مِن الأحاديثِ القدسيةِ بالاتِّفَاقِ ؛لأنّه يتعلّقُ به أحكامٌ لا تتعلّقُ بالأحاديثِ القدسيةِ ".( )
وفي مَوضعٍ آخر قال :" ومرتبةُ الحديثِ القُدْسِيِّ بينَ القرآنِ والحديثِ النبويِّ ، فالقرآنُ الكريمُ يُنسب إلى الله لفظًا ومعنىً ، والحديثُ النبويُّ يُنسب إلى النبيِّ لفظًا ومعنىً، والحديثُ القُدْسِيُّ يُنسب إلى الله تعالى معنىً لا لفظًا ، ولذلكَ لا يُتعبَّدُ بتلاوةِ لفظهِ ولا تُقرأُ في الصلاةِ ، ولم يحصلُ به التحدِّي ، ولم يُنقل بالتواترِ كما نُقلَ القرآنُ ، بل مِنه ما هو صحيحٌ وضعيفٌ ومَوضوعٌ ".( )
هذا رأيُ الشيخِ ابن عثيمين في الفرقِ بينَ القرآنِ والحديثِ القُدْسِيِّ ، وخلاصتهُ ما يلي :
1-القرآنُ لا يَمسُّهُ إلاّ طاهرٌ ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
2-القرآنُ لا يقرؤهُ الجُنُبُ ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
3-كُفر مَن أنكر حرفًا واحدًا مُجْمعًا عليه مِن القرآنِ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
4-القرآنُ لا يصحُّ بيعه على رأيِ الأكثر ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
5-القرآنُ لا يُسافَرُ به إلى أرض العدوِّ ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
6-القرآنُ يُقرأ في الصلاةِ ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
7-القرآنُ مُعْجِزٌ ووقعَ به التحدِّي ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
8-القرآنُ مُتعبَّدٌ بتلاوتهِ ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
9-القرآنُ مَنقولٌ كُلُّهُ بالتواترِ ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ ، بل مِنه الصحيحُ والضعيفُ والمَوضوعُ .
10-القرآنُ تكفّلَ الله بِحفظه ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
11-القرآنُ لا تجوزُ روايته بالمعنى ، بخلاف الحديثِ القُدْسِيِّ .
12-القرآنُ نَزَلَ بواسطةِ جبريلَ ، والحديثُ القُدْسِيُّ بروايةِ الرسولِ مباشرةً عن الله تعالى .
13-القرآنُ لفظهُ ومعناهُ مِن عند الله تعالى ، أمّا الحديثُ القُدْسِيُّ فمعناه مِن الله تعالى؛ ولفظهُ مِن الرسولِ .( )
تبع إن شاء الله: