بسم الله الرحمن الرحيم


قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (6/ 59):

(....ومما يتصل بذلك: أن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد وقد تجب في حال دون حال وعلى قوم دون قوم؛ وقد تكون مستحبة غير واجبة وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء، وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها كما قال علي - رضي الله عنه -: " حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله "، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم "، وكذلك قال ابن عباس - رضي الله عنه - لمن سأله عن قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات} الآية، فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك تكذيبك بها، وقال لمن سأله عن قوله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} هو يوم أخبر الله به؛ الله أعلم به؛ ومثل هذا كثير عن السلف.
فإذا كان العلم " بهذه المسائل " قد يكون نافعا وقد يكون ضارا لبعض الناس تبين لك أن القول قد ينكر في حال دون حال ومع شخص دون شخص؛ وإن العالم قد يقول القولين الصوابين كل قول مع قوم؛ لأن ذلك هو الذي ينفعهم؛ مع أن القولين صحيحان لا منافاة بينهما؛ لكن قد يكون قولهما جميعا فيه ضرر على الطائفتين؛ فلا يجمعهما إلا لمن لا يضره الجمع، وإذا كانت قد تكون قطعية، وقد تكون اجتهادية: سوغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية وكثير من تفسير القرآن أو أكثره من هذا الباب؛ فإن الاختلاف في كثير من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية لا من باب العملية؛ لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار كما قد تقع في مسائل العمل، وقد ينكر أحد القائلين على القائل الآخر قوله إنكارا يجعله كافرا أو مبتدعا فاسقا يستحق الهجر وإن لم يستحق ذلك وهو أيضا اجتهاد، وقد يكون ذلك التغليظ صحيحا في بعض الأشخاص أو بعض الأحوال لظهور السنة التي يكفر من خالفها؛ ولما في القول الآخر من المفسدة الذي يبدع قائله؛ فهذه أمور ينبغي أن يعرفها العاقل؛ فإن القول الصدق إذا قيل: فإن صفته الثبوتية اللازمة أن يكون مطابقا للمخبر، أما كونه عند المستمع معلوما أو مظنونا أو مجهولا أو قطعيا أو ظنيا أو يجب قبوله أو يحرم أو يكفر جاحده أو لا يكفر؛ فهذه أحكام عملية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له؛ فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية، وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له؛ فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع، وهو أن ينظر في " شيئين في المقالة " هل هي حق؟ أم باطل؟ أم تقبل التقسيم فتكون حقا باعتبار باطلا باعتبار؟ وهو كثير وغالب؟، ثم النظر الثاني في حكمه إثباتا أو نفيا أو تفصيلا واختلاف أحوال الناس فيه؛ فمن سلك هذا المسلك أصاب الحق قولا وعملا وعرف إبطال القول وإحقاقه وحمده، فهذا هذا والله يهدينا ويرشدنا إنه ولي ذلك والقادر عليه).

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد..