الحمد لله والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على رسوله محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
فهذه رسالة أقدمها لإخواني ـ وحصريا للمجلس العلمي الأغر ـ لفائدتها الكبيرة ، ولا سيما في زماننا هذا الذي كثرت فيه الاختلافات حول مسائل تتعلق بالكفر والتكفير . ( وعذرا لأنني أكتبها بيدي شيئا فشيئا ، فستكون على مراحل متتابعة بإذن لله تعالى )
فإلى متنها :
ـ سؤال وجه إلى الشيخ العلامة الإمام عبد الله بن عبد الرحمن بن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس ، الملقب كأسلافه : " أبا بطين " العائذي تلميذ الإمام عبد الله بن السيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، ت 1282 هـ .
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال : ما معنى قول الشيخ تقي الدين ( ابن تيمية ) رحمه الله في رده على ابن البكري :
" فلهذا كان أهل العلم و السنة لا يكفرون من خالفهم و إن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه و تزني بأهله لأن الكذب و الزنا حرام لحق الله تعالى و كذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله و رسوله و أيضا فإن تكفير الشخص المعين و جواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها و إلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر ...".
إلى أن قال : ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية و النفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر و أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال .. إلخ(1) .
أفتونا : ما معنى قيام الحجة ؟ أثابكم الله بمنه وكرمه .
الجواب : الحمد لله رب العالمين ، تضمن كلام الشيخ رحمه الله مسألتين :
إحداهما ؛ عدم تكفيرنا لمن كفرنا . وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولا أم لا .
وقد صرح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولا لا يكفر .
ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول ، فنقل عن المتولي أنه قال : إذا قال المسلم : يا كافر ، بلا تأويل كفر .
قال : وتبعه على ذلك جماعة ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما "(2) . والذي رماه به مسلم ، فيكون هو كافرا .
قالوا : لأنه سمى الإسلام كفرا .
وتعقب بعضهم هذا التعليل ـ وهو قولهم : لأنه سمى الإسلام كفرا . فقال : هذا المعنى لا يفهم من لفظه ، ولا هو مراده ، إنما مراده ومعنى لفظه : أنك على دين الإسلام الذي هو حق ، وإنما أنت كافر ، دينك غير الإسلام ، وأنا على دين الإسلام . وهذا مراده بلا شك ؛ لأنه إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام ، فنفى عنه كونه على دين الإسلام فلا يكفر بهذا القول ، وإنما يعزر بهذا السب الفاحش بما يليق به ، ويلزم على ما قالوه أن من قال لعابد : يا فاسق ، كفر ؛ لأنه سمى العبادة فسقا ، ولا أحسب أحدا يقوله ، وإنما يريد : أنك فاسق وتفعل مع عبادتك ما هو فسق ، لا أن عبادتك فسق . انتهى .
وظاهر كلام النووي في شرح مسلم يوافق ذلك ، فإنه لما ذكر الحديث قال : وهذا مما عده بعض العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصى كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه كافر من غير اعتقاد بطلان دين الاسلام .
ثم حكى في تأويل الحديث وجوها :
أحدها : أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر فعلى هذا معنى باء بها أى بكلمة الكفر وكذا حار عليه وهو معنى رجعت عليه أى رجع عليه الكفر فـ " باء " و" حار " و " رجع " بمعنى واحد .
الثانى : رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره .
الثالث : أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين . وهذا الوجه نقله القاضي عياض عن مالك . وهو ضعيف؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذى قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع .
الرابع : معناه أنه يؤول إلى الكفر ، فأن المعاصى ـ كما قالوا ـ بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر . ويؤيده ما جاء فى رواية أبى عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم : " فان كان كما قال والا فقد باء بالكفر ".
الخامس : فقد رجع عليه تكفيره ، وليس الراجع حقيقة الكفر ، بل التكفير ؛ لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا ، فكأنه كفر نفسه ، إما لانه كفر من هو مثله ، وإما لانه كفر من لا يكفره الا كافر يعتقد بطلان دين الاسلام . انتهى (3).
وقال ابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلم : ومن دعا رجلا بالكفر", أو قال: "عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه": أي رجع عليه ، وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدا من المسلمين وليس كذلك هي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء ، اختلفوا في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضا .
ثم نقل عن الأستاذ لأبي إسحاق الإسفراييني أنه قال : لا أكفر إلا من كفرني . وربما خفي هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح ، والذي ينبغي أن يحمل عليه: أنه قد لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر - وليس كذلك - رجع عليه الكفر ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "من قال لأخيه: كافر: فقد باء بهما أحدهما" .
وكأن هذا المتكلم ـ أي أبو إسحاق ـ يقول : الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المكفِّر وإما المكفَّر ، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا ، وأنا قاطع أني لست بكافر ، فالكفر راجع إليه انتهى .(4)