قال بعضهم: إن حديث القلتين يعارض حديث: (الماء طهور لا ينجسه شيء) .
نقول - وبالله التوفيق -: إن للعلماء مسالكَ في التوفيق بين الحديثين على النحو التالي:


المسلك الأول: قالوا بضعف حديث القلتين؛ للاضطراب في متنه وسنده، فلا تعارض حينئذٍ؛ لأن الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة.
المسلك الثاني: قالوا: الحديث صحيح، وذهبوا إلى الترجيح، فقالوا إن حديث: (الماء طهور لا ينجِّسه شيء)، صريح بمنطوقه على أن الماء طاهر لا ينجسه شيء.

أما حديث القلتين، فمفهومه يدل على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، وعلماء الأصول يقولون: إن دلالة المنطوق إذا تعارضت مع دلالة المفهوم، قُدِّم دلالة المنطوق.
وسلك بعضهم مسلكًا آخر للترجيح، وهو أن حديث: (الماء طهور لا ينجسه شيء) عامٌّ، وحديث (القلتين) خاصٌّ، وعلماء الأصول عندهم: (إذا تعارض العام والخاص، قُدِّم الخاص).

فأصبح عندنا الآن منطوق عام، ومفهوم خاص، ولكن العلماء يقدِّمون دلالة المنطوق على دلالة المفهوم؛ لأنه أقوى في الدلالة، وهذا نظير قولِه - تعالى -: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80]، فمفهوم الآية أنه لو استغفر لهم واحدًا وسبعين غُفِر لهم، لكن هذا مفهوم معارَض بقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، إذًا لو استغفر لهم ألفَ مرَّة ما غفر لهم، فألغينا دلالة المفهوم هنا؛ لأنها معارَضة بدلالة المنطوق، وما قلنا: إن عموم قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ﴾ مخصوص بمفهوم قوله: ﴿ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ﴾.

المسلك الثالث: ذهب بعضهم إلى الجمع بين الحديثين، فقالوا: إن حديث (القلتين) يُفِيد أن الماء إذا بلغ قلتين فأكثر، فإنه لا ينجس؛ لأن كثرته تَحُول بينه وبين النجاسة ولا تأثير في الماء، وهذا موافق لحديث (الماء طهور).

وأما ما دون القلتين، فإن الحديث لم ينصَّ على أنه يحمِلِ الخبث يقينًا، ولكن يُفِيد مظنَّة واحتمال حمل الخبث، فيكون المعنى: أن الماء طهور لا ينجِّسه شيء، إلا إذا تغيَّر أحد أوصافه الثلاثة.
قال صديق حسن خان:(إن ما دون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغيُّر ريح الماء أو لونه أو طعمه، فهذا هو الأمر المُوجِب للنجاسة والخروج عن الطهورية، وإن حمل حملاً لا يُغيِّر أحد تلك الأوصاف، فليس هذا الحمل مستلزمًا للنجاسة)الروضة الندية 1/8.
وانظر المسألة : انظر المسألة في: التمهيد لابن عبدالبر 91 - 105، والشرح الممتع لابن عثيمين 1/52 - 54، وتمام المنة للعزازي 1/17 - 18، وشرح جوامع الأخبار لعبدالكريم الخضير 4/16 - 20، والتعليق الممجد على موطأ محمد 1/270 - 272.

تنبيه : قاعدة: الشيء إذا ورد فيه حكمًا شرعيًّا واعتراه تغير - طرأ عليه تغير - ولم يخرجه عن اسمه - لا يزيل عنه الاسم - بقي حكمه الشرعي كما هو.
مثل: مسألة الاستحالة: النجاسة إذا أحرقت وتحولت إلى رماد - أصبح اسمها رمادًا - تغير اسمها تمامًا، ففي هذه الحالة تأخذ حكمًا آخر.
والماء إذا خالطه طاهر وغيَّر فيه، لكن اسمه ماء لم يغير اسمه، يبقى كما هو؛ حكمه أنه ماء طهور.
والقمح حينما تحول إلى دقيق، خرج عن اسمه - زال عنه اسم القمح - وبالتالي تغير حكمه، ففي هذه الحالة يجوز بيع الدقيق بالقمح متفاصلًا، وهو قول أهل الظاهر وقول مالك في موطئه، كما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد، ويترجح هذا المذهب بهذه القاعدة: إن زال عنه الاسم، زال عنه الحكم.