في رواية في المذهب الحنبلي أن صلاة المأموم تبطل لو صلى خارج المسجد مع عدم رؤيته للإمام أو رؤية من وراءه.
واستدلوا على ذلك بأثر ونظر:
فأما الأثر: فقد رُوِي عن عائشة رضي الله عنها، أَنَّ نِسْوَةً صَلَّيْنَ فِي حُجْرَتِهَا، فَقَالَتْ: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ؛ فَإِنَّكُنَّ فِي حِجَابٍ([1]).
وأما النظر: فقالوا: لأنه لا يُمكنه الاقتداء به في الغالب.
قلت: وأُجيب عن الأثر بأنه منكر لا يصح.
وعن النظر بأنه ما دام يسمع التكبير فإنه يمكنه الاقتداء به.
والصحيح – وهو رواية عن أحمد - أن الصلاة مع عدم رؤية الإمام ولا مَنْ وراءه، تصح، ما دام أنه يسمع تكبيرات الإمام سواء سمعها منه مباشرة أو عن طريق الْمُبَلِّغ؛ وذلك لعدم وجود الدليل على بطلان صلاته.
ورجح هذه الرواية: ابن قدامة رحمه الله.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ حَائِلٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ. اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ.
وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْغَالِبِ.
وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ يُصَلِّي خَارِجَ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةٌ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ؟ قَالَ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي الْمِنْبَرِ إذَا قَطَعَ الصَّفَّ: لَا يَضُرُّ.
وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ؛ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ، كَالْأَعْمَى، وَلِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تُرَادُ لِلْعِلْمِ بِحَالِ الْإِمَامِ، وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ، فَجَرَى مَجْرَى الرُّؤْيَةِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَحَلُّ الْجَمَاعَةِ، وَمَظِنَّةِ الْقُرْبِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ.
وَلَنَا، أَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ أَوْ الْمَانِعَ قَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ.
وَلَا بُدَّ لِمَنْ لَا يُشَاهِدُ أَنْ يَسْمَعَ التَّكْبِيرَ، لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، لَمْ يَصِحَّ ائْتِمَامُهُ بِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ([2])))اهـ.
[1])) منكر: أخرجه البيهقي في ((المعرفة والآثار)) (5849)، من طريق الشافعي، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة، به.
قلت: لَيْثٌ؛ هو ابن أبي سُلَيم، قد ضعفه الأئمة، وقال عنه الحافظ في ((التقريب)): ((صدوق، اختلط جدًّا، ولم يتميز حديثه فترك)).
وإبراهيم بن محمد؛ هو ابن أبي يحيى الأسلمي، قال علي بن المديني عَن يحيى بْن سَعِيد القطان: كذاب.
وَقَال يحيى بْن سَعِيد: سألت مالكًا عَنه: أكان ثقة؟ قال: لا، ولا ثقة في دينه.
وقَال بشر بْن المفضل: سألت فقهاء أهل المدينة عنه، فكلهم يقولون: كذاب أو نحو هذا.
وقال أحمد بْن حنبل: لا يُكتب حديثه، ترك الناس حديثه؛ كان يروي أحاديث منكرة.
وقال أَحمد أيضًا: كان قدريًّا معتزليًّا جهميًّا، كل بلاء فيه.
وقَال البُخارِيُّ: جهمي تركه ابن المبارك والناس؛ كان يرى القدر.
[2])) ((المغني)) (2/ 152، 153).