ذهب الحنابلة – في المشهور عنهم - وغيرهم إلى عدم صحة إمامة الصبي المميِّز للرجال البالغين؛ واستدلوا على ذلك بما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقَدِّمُوا صِبْيَانَكُمْ، وَلَا سُفَهَاءَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَفْدَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى([1])».
واستدلوا على ذلك أيضًا بما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ([2]).
وصححوا إمامة الصبي المميِّز للبالغ في النافلة؛ قالوا: لأن النافلة يدخلها التخفيف([3]).
والصحيح – وهو رواية عن أحمد([4]) – أن إمامة الصبي المميِّز للبالغ جائزة في الفرض والنافلة؛ ودليل ذلك حديث عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، أَوْحَى إِلَيْهِ، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الكَلَامَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا، فَقَالَ: «صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا»، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي؛ لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ([5]).
فدلَّ هذا الحديث على صحة إمامة الصبي المميِّز للبالغين، وأما الحديث والأثر الذَيْنِ استدل بهما المانعين، فلا يصحَّان.
قلت: بل المميِّز أَولى بالإمامة - لو كان أقرأ لكتاب الله - من البالغ؛ ودليل ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ»؛ فهو حديث عام يشمل البالغ وغيره.
[1])) ذكره ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (2/ 469)، وقال: ((هذا حديثٌ لا يصحُّ، ولا يُعرف له إسنادٌ صحيحٌ، بل رُوِيَ بعضه بإسنادٍ مظلمٍ)).
[2])) أخرجه عبد الرزاق (1872)، والبيهقي في ((الكبير)) (5858)، بسند ضعيف.
[3])) انظر: ((المغني)) (2/ 168).
[4])) ذكرها القاضي أبو يعلى في ((الروايتين والوجهين)) (1/ 173)، والمرداوي في ((الإنصاف)) (2/ 266).
[5])) أخرجه البخاري (4302).