حكم الوضوء من مسِّ الفَرْج :
الفرج : اسم لمخرج الحَدَث .
وفي حكم الوضوء من مسِّ الفرج خلاف مشهور ، ومنشأ هذا الخلاف ومبناه هو اختلاف النقولات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واختلافُها صحَّةً وضعفًا ، ومن ثَمَّ اختلفوا فيما بينهم في فهم النصوص ، سلفًا وخلفًا ، والمراد منها .
قال ابن عبدالبر : (إنما جازت المناظرةُ والقياس عندهما في هذه المسألة لاختلاف الآثار فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يأتِ عنه فيها عندهما شيء يجب التسليم له من وجهٍ لا تعارُضَ فيه، واختَلف فيه الصحابة أيضًا، فمن ها هنا تناظرا فيها، والأسانيد عن الصحابة في إسقاط الوضوء منه أسانيد صحاح من نقل الثقات) . التمهيد 1/272.
قلت : (أبو البراء) : وكان نتاج وثمرة هذا الخلاف أن اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال ، منها :
القول الأول : إنه ناقض للوضوء مطلقًا :
وهو قول عمر بن الخطاب ، وابنه عبدالله ، وأبي هريرة ، وسعد بن أبي وقاص في رواية المدنيين عنه ، وعائشة ، وجابر بن عبدالله ، وزيد بن خالد ، وغيرهم من الصحابة .
وهو قول سعيد بن المسيب ، وطاوس ، وعطاء بن أبي رباح ، وسليمان بن يسار ، وعروة بن الزبير ، وأبان بن عثمان ، والزهري ، ومجاهد ، ومكحول ، والشعبي ، والأوزاعي ، والحسن ، وعكرمة ، وابن جريج من التابعين .
وإليه ذهب مالك في رواية عنه ، والشافعي ، والليث بن سعد ، وأحمد في رواية عنه ، وإسحاق بن راهويه ، وداود ، والطبري ، وأصبغ بن فرج المالكي . التمهيد 2/259-274، والمغني 1/240-241.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها :
حديث بسرة بنت صفوان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (مَن مس ذَكَره فلا يصلِّي حتى يتوضَّأ) . أبو داود 181 ، والترمذي 83 ، وصححه ، والنسائي 451 ، قال يحيى بن معين:أصح حديث في مس الذكر حديث مالك، عن عبدالله بن أبي بكر ، عن عروة ، عن مروان ، عن بسرة ، وكان أحمد بن حنبل يقول نحو ذلك أيضًا ، وقال البخاري : هو أصح شيء في الباب ، وصحَّحه الدارمي ، وصححه الألباني في الإرواء 1/150 .
حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيُّما رجلٍ مسَّ فرجَه فليتوضَّأ ، وأيما امرأة مسَّت فرجها فلتتوضَّأ) . المنتقى لابن الجارود 19، والدارقطني في سننه 534 ، والبيهقي في السنن الكبرى 637 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2725 .
حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فَرْجه ليس دونها حجابٌ، فقد وجَب عليه الوضوء) . البيهقي 522 ، 523 ، الدارقطني 542 ، وابن حبان 1118 ، وقال ابن حبان : حديث صحيح مسنده ، عدول نَقَلته ، وصحَّحه الحاكم في المستدرك 1/138، وحسنه ابن عبدالبر في التمهيد ، وقال ابن السكن : هو أجود ما روي في هذا الباب ، وقد صوَّب الدارقطني في العلل 8/131 وَقْفَه على أبي هريرة ، وبالجملة فالحديث حسن يشهد له حديث بسرة المتقدم ، وحديث أم حبيبة الآتي ذكره بعده ، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع 7144.
حديث أم حبيبة ، قالت : سمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (مَن مسَّ فرجه، فليتوضَّأ) . حسن لغيره : ابن ماجه 481 ، والطبراني في الكبير 451 ، والبيهقي 1/130، وأبو يعلى في مسنده 7144، وقد اختلف في سماع مكحول من عنبسة وهو ابن أبي سفيان ، فقال البخاري ، ويحيى بن معين ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، والنسائي ، بعدم إثبات السماع ، بينما ذهب دحيم إلى إثبات السماع ، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص 1/217: وهذا أعرف بحديث الشاميين ، فأثبت سماع مكحول من عنبسة .
لكن يعارضه قول يحيى بن معين : قال أبو مسهر : لم يسمع مكحول من عنبسة ، وأبو مسهر شامي ، وهو أكبر من دحيم ؛ انظر : جامع التحصيل 796، وتهذيب التهذيب 10/258، والتلخيص الحبير 1/217.
أضف إلى ذلك أن مكحولاً مدلِّس وقد عنعن ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة : هذا إسناد فيه مقال ، مكحول الدمشقي مدلِّس ، وقد رواه بالعنعنة ، فوجب تركُ حديثه ، لا سيِّما وقد قال البخاري ، وأبو زرعة ، وهشام بن عمار ، وأبو مسهر ، وغيرهم : إنه لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان ؛ فالإسناد منقطع.
زِدْ على ذلك أن البخاري في التاريخ الكبير 7/37 أعله بالمخالفة ؛ حيث قال : روى الهيثم بن حميد ، عن العلاء بن الحارث ، عن مكحول ، عن عنبسة ، عن أم حبيبة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسِّ الذَّكَر ، ويرونه وهمًا ؛ لأن النعمان بن المنذر قال عن مكحول : إن ابن عمر كان يتوضأ منه ، مرسلًا.
والحديث صححه أحمد ، وأبو زرعة، وابن السكن ، قال الخلال في العلل : صحَّح أحمد حديث أم حبيبة ، وقال ابن السكن : لا أعلم به علة ،وكذا الألباني في صحيح الجامع 6555، قلتُ (أبو البراء) : فالحديث حسن بشواهده ، والعلم عند الله .
القول الثاني : أنه ليس بناقض مطلقًا :
وهو قول علي بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر ، وعبدالله بن مسعود ، وعبدالله بن عباس ، وحذيفة بن اليمان ، وعمران بن حصين ، وأبي الدرداء من الصحابة ، وكذا رواية الكوفيين عن سعد بن أبي وقاص .
وهو قول ربيعة ، وسفيان الثوري ، وابن المنذر ، وأبي حنيفة ، وأصحاب الرأي ، وسحنون من المالكية ، ومالك في المشهور عنه .
واستدلوا بأدلة ، منها :
1- حديث طلق بن علي [COLOR=window****]قال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [/COLOR]سئل عن مسِّ الذكر ، فقال : (ليس فيه وضوء، إنما هو منك) . حسن : ابن ماجه 483 كتاب الطهارة واللفظ له ، وأبو داود 182، والترمذي 85، والنسائي 165 ، وصححه علي بن المديني ، وعمرو الفلاس ، والطحاوي وصححه الألباني في المشكاة 320.
2- قالوا : إن الأصل بقاء الطهارة وعدم النقض ، ولا نخرج عن الأصل إلا بدليل متيقن غير محتمل .
3- حديث أبي ليلى الأنصاري قال : (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء الحسن بن عليٍّ فجعل يتمرَّغ عليه، فرفع مقدم قميصه فقبل زُبَيْبه) . ضعيف : أخرجه الطبراني ، والبيهقي في السنن الكبرى 651، وذكره الدولابي في الكنى والأسماء 305، وإسناده ليس بالقوي ، فيه قابوس بن أبي ظبيان ، ضعفه النسائي ، وفيه أيضًا محمد بن عمران بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، لم يوثِّقه إلا ابن حبان ، وضعفه البيهقي ؛ حيث قال : هذا إسناد غير قوي ، وليس فيه أنه مسَّه بيده ، ثم صلى ولم يتوضأ ، وضعفه النووي في المجموع 2/43.
- أبي ليلى الأنصاري ، اسمه : داود بن بلال ابن بنت أبي ليلى ؛ انظر: الكنى والأسماء للدولابي 1/152.
- زبيبه : تصغير زِبٍّ ، وهو الذَّكَر بلغة أهل اليمن .
وأجيب بضعفه ، وعلى فرض صحته فيحتمل أن يكون من فوق حائل ؛ لأن الحديث ليس فيه أنه قبَّله من غير حائل ، وهذا بعيد .
وقيل : إنه ليس فيه أنه مسَّ زُبَيْبَه ببطن الكف أو بيده عمومًا ، وليس فيه أنه صلى بعد مسه .
قال الحافظ في التلخيص :
(وإذا تقرَّر أنه ليس في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى عقب ذلك، فلا يستدل به على عدم النقض، نعم يستدل به على جواز مس فرج الصغير ورؤيته) . التلخيص الحبير 1/222.