اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أنه يجب الوضوء :
وهو قول الظاهرية وابن حبيب المالكى وإليه مال ابن العربي المالكي .انظر: فتح البارى 1/571.
وتمسَّكوا بأن الأحاديث جاءت بصيغة الأمر وبصيغة الشرطية ، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : ((توضَّأْ واغسِلْ ذَكَرك ثم نَمْ)) ، وفي رواية : ((ليتوضأ ثم ليَنَمْ))، والشرطية كما في قوله: (إذا توضأ).
وأجيب عليهم :
بأن الروايات التي فيها الأمر بالوضوء فيها أيضًا الأمر بالنوم ، فعلى قولكم هذا أوجبتم النوم أيضًا ، ولا قائل بهذا .
القول الثاني : أنه يستحب الوضوء :
وهو قول جمهور العلماء من الشافعية ، والحنابلة ، والمالكية ، والحنفية ، وقول الثوري ، والحسن بن حي ، وابن المسيب ، وأبي يوسف ، وغيرهم ، وقول علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وعائشة ، وشداد بن أوس ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عباس ، وهو قول الحسن، وعطاء ، وابن المبارك. المغني 1/303-304، والتمهيد 305-314، وفتح الباري 1/357.
واستدلوا بـ :
1 - حديث عائشة،[/color] قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يُجنِب ثم ينام ولا يمس ماءً حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل) . ابن ماجه 581، وأحمد 24755، ومالك في الوطأ 56، وقد ذكر الحافظ في الفتح 3/32: أن الحفاظ أنكروا على أبي إسحاق هذه اللفظة، وقال: قال الترمذي: يرون أن هذا غلطٌ من أبي إسحاق.
وحكى الحافظ في التلخيص 1 / 140 - 141 عن أحمد قولَه في هذا اللفظ: إنه ليس بصحيح، ثم قال: وأخرج مسلم الحديث دون قوله: (ولم يمس ماءً)، وكأنه حذفها عمدًا؛ لأنه علَّلها في كتاب التمييز.
وأجيب بضعف لفظةِ : (لا يمس ماءً) ؛ لأن أبا إسحاق السَّبِيعى غلط فيها، قال الترمذي : (يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق)، وقال البيهقي: (طعن الحفَّاظ في هذه اللفظة) .
وقالوا : على فرض صحتها، فيحمل ترك الوضوء لبيان الجواز؛ لئلاَّ يعتقد وجوبه، ويحتمل أنه ترك الماء؛ أي: ماء الغسل؛ قاله ابن حجر والنووي . انظر: شرح مسلم للنووي 3/281، وفتح الباري لابن حجر 1/571.
قلت (أبو البراء) : الراجح القول بالاستحباب ؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خيَّر الجُنُب في الوضوء ، كما في حديث ابن عمر ، يقول: سأل عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أينام أحدنا وهو جنب ؟ فقال : ((نعم إذا توضأ، ويطعم إن شاء)) . ابن خزيمة 211 وابن حبان 1216، وصححها الألباني؛ انظر: آداب الزفاف 116، حيث قال : عزاه الحافظ في "التلخيص" كما تقدم قريبًا، ثم قال الحافظ: وأصله في الصحيحين دون قوله: إن شاء.
قلت : القائل الألباني : بل هو في صحيح مسلم أيضًا بهذه الزيادة كما سبق تخريجه آنفًا ص 114، وهي دليل صريح على عدم وجوب الوضوء قبل النوم على الجنب خلافًا للظاهرية.
قلت: أبو البراء : رحم الله العلامة الألباني، فالأمر كما قال ابن حجر، أن لفظة: (إن شاء)، ليست في الصحيحين، وإنما هي عند مسلم 306: ((نعم، ليتوضأ ثم لينم، حتى يغتسل إذا شاء)).
زِدْ على ذلك أنه لم يثبت وجوب الوضوء إلا للصلاة فقط ، في المسألة خلاف مشهور، سيِّما في الطواف ، والراجح ما ذكرته ، والله أعلم.
كما ثبت من حديث ابن عباس، يقول: (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى حاجته من الخلاء، فقرِّب إليه طعام فأكل ولم يمس ماءً)، وفي رواية: (فقيل له: ألا توضَّأ؟ فقال: ((لِمَ؟ أأصلِّي فأتوضأ))، وفي رواية: فقيل: يا رسول الله ألا توضَّأ؟ قال: ((لِم؟ أللصلاة؟)) . ؛ قاله ابن عبدالبر . مسلم 374.
واختلف أيضًا في المراد بالوضوء :
فذهب الطحاوي الحنفي إلى أن المراد بالوضوء هنا هو التنظيف، واستند إلى ذلك بفعل ابن عمر، وأنه كان لا يغسل رِجْلَيه، قال : وهو صاحب القصة وراوي الحديث . أخرجه مالك في الموطأ 1/48، عن نافع أن عبدالله بن عمر: كان إذا أراد أن ينام أو يطعم وهو جنب، غسَل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسَح رأسه، ثم طعِم ونام.
وأجيب: بأن ابن عمر يحتمل أنه فعل ذلك لعذر؛ قاله ابن حجر.
ورد عليهم : أن كلام نافع يدلُّ على الاستمرارية، وليس لعارض أو عذر؛ حيث قال: (وكان ابن عمر إذا أراد أن ينام أو يطعم وهو جنب).
قلت (أبو البراء) : والظاهر أن الفعل من ابن عمر إنما هو لاجتهاد منه، ومعلوم أن الراوي أو الصحابي إذا فعل خلاف ما روى، فالعبرة بما روى لا بما فعل، كذلك معلوم أن المراد بالألفاظ النبوية المعنى الشرعي لا المعنى اللغوي إلا بقرينة، ولا قرينة هنا.
وذهب الجمهور إلى أن المراد بالوضوء هو الوضوء الشرعي؛ وذلك لما ثبت من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان جُنبًا، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة) . متفق عليه: البخاري 288، ومسلم 305، زاد البخاري: غسل فرجه.
وكذا ثبت في حديث جابر بن عبدالله الذي مر معنا في الباب، وفيه: ((نعم، إذا توضأ وضوءه للصلاة)).
قال ابن حجر: (أي توضأ وضوءًا كما للصلاة، وليس المعنى أنه توضأ لأداء الصلاة، وإنما المراد توضأ وضوءًا شرعيًّا لا لُغويًّا) . الفتح 1/571.
قلت (أبو البراء) : وقد وجَّه شيخ الإسلام ابن تيمية فعل ابن عمر توجيهًا آخر؛ حيث قال: (إذا كان مستحبًّا - أي الوضوء - له أن يقتصر على بعض الأعضاء، كوضوءِ ابن عمر لنومه جنبًا إلا رِجْلَيه، وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام من الليل فأتى حاجته - يعني الحدث - ثم غسل وجهه ويدَيْه ثم نام) . متفق عليه: البخاري 6316، ومسلم 304، من حديث ابن عباس.
وذكَر بعض العلماء أن هذا الغسل للتنظيف والتنشيط للذِّكْرِ وغيرِه . الفروع لابن مفلح 1/122.
قلت (أبو البراء) : وثبت عن علي بن أبي طالب نحو من ذلك؛ فعن النزال بن سبرة، قال: أتي علي - رضي الله عنه - بكُوزٍ من ماء وهو في الرحبة، فأخذ كفًّا من ماء فمضمض، واستنشق، ومسح وجهه، وذراعيه، ورأسه، ثم شرِب وهو قائم، ثم قال: هذا وضوء مَن لم يُحدِث، هكذا رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل) .صحيح أحمد 583، واللفظ له، والنسائي 1،30، وابن حبان 1340، وأصله عند البخاري 5616، دون ذكر: هذا وضوء مَن لم يُحدِث، وصححه الألباني.
قال السندي في حاشيته على النسائي وقوله: (هذا وضوء مَن لم يحدث، فبين أن لغير المُحدِث أن يكتفيَ بالمسح موضع الغسل، ولعل ما جاء من مسح الرِّجْلين من بعض الصحابة أحيانًا - إن صح - قلت: يشير إلى فعل ابن عمر في وضوئه من الجنابة قبل النوم، وقد ذكره مالك في الموطأ 1/48، وصح عنه .- يكون محله غير حالة الحدث، والله تعالى أعلم).