الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
تُعتبر الدولة العثمانية هي الدولة الشرعية للخلافة الإسلامية السُنّية , وهي التي كانت تحمي الإسلام والمسلمين على مدار ستة قرون , ولهذه الدولة من المجد وحماية الإسلام وأهله مالها , ومن ثـَمَّ كَثـُرَ عداء الغرب والحاقدون على الإسلام و أهله لها . فكيف نشأت هذه الدولة ؟
نشأة الدولة العثمانية :
مؤسس هذه الدولة هو عثمان بن أرطغرل بن سليمان, وأصل جده من بلاد الأناضول التي كان يُغِيرُ عليها التتار في ظل حكم آل سلجوق , وعثمان هذا كان أعجوبة زمانه , يقول عنه العصامي – الذي كان معاصرا له – في كتابه " سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي " : ( وكان للسيف والضيف كثير الإطعام فاتك الحسام، كثير البذل واسع العطاء، شجاعاً مقداماً على الأعداء، ما خلف نقداً ولا متاعاً إلا درعاً وسيفاً يقاتل بهما الأعداء الكفار، وبعض خيل وقطيعاً من الغنم اتخذها للضيفان، وأنسالها باقيةٌ إلى الآن ترعى حول بلاد بروسا أبقوها تيمناً وتبركاً، وهو أول من أظهر عظمة هذا الملك، وسلك سبيل العدل فيه حتى قيل فيه: ثالث العمرين , وكان جميل الصورة حتى قيل: ثالث القمرين. وكان يحب الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والأيتام فيجمع أنواع الطعام وأصناف الحلوى، فيطبخ لهم بعد كل ثلاثة أيام سماطاً عظيماً يأكل منه الخاص والعام ممن ذكر وغيرهم . )
فهذا هو عثمان بن أرطغرل الذي أخذ على عاتقيه توسيع رقعة ديار الإسلام في بلاد الأناضول و التصدي لهجمات التتار المعتدين الذين لم تستطع الدولة السلجوقية التصدي لهم وهذا الذي دعا السلطان السلجوقي علاء الدين إلى جعل أرطغرل والد عثمان حاكمًا على الأناضول فلما مات أرسل السلطان لولده عثمان خلعةً وسيفاً ونقارةً وخصَّه بالغزو على الكفار , وهذا إعلان رسمي بحكم عثمان لهذه الأقاليم , والذي حدث أبعد من هذا إذ أنه (لما توفي السلطان علاء الدين سنة تسع وتسعين وستمائة، اجتمع أكثر الغزاة عند عثمان بن أرطغرل، فتسلطن عثمان الغازي وجلس على تخت السلطنة في السنة المذكورة . ) وبهذا استقرت أمور الحكم في البلاد للسلطان عثمان الغازي كما - لقبته كتب التاريخ- , وكان هذا إذانًا بقيام دولة بني عثمان.
فضائل الدولة العثمانية وعيوبها :
ونحن نجد مدح العلماء والمؤرخين للدولة العثمانية , فهذا المُؤرخ العصامي يقول في كتابه ( سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي ) : " في ذكر ملوك آل عثمان خلد الله سلطتهم القائمة إلى آخر الزمان، أصلحُ الدول بعد الصحابة والتابعين دولتُهم وذلك لانقيادهم للشرع، وتمكنهم من رتبة العبادة كالصلاة والصوم والحج، والجهاد وملازمة الجماعة، واتباع السنة وحسن العقيدة، والشفقة على الأمة، وكشف كل كربة وغمة، وقل أن يوجد جميع ذلك في دولة من الدول السابقة ." أ.هـ
وهذا المحبي في كتابه ( خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ) يقول : " وبالجملة فإن محاسن هذه الدولة العثمانية كثيرة وخيراتهم غزيرة ..." وأخذ يعدد الفضائل . أ.هـ
وحقًا لو تتبعنا فضائل الدولة العثمانية لأخذ هذا منا وقتًا وجهدًا كبيرًا لكثرة حسنات هذه الدولة المباركة ولكن نجمل هذه الحسنات في الآتي :
• إذلال الدولة البيزنطية باستيلائها على القسطنطينية عام 1453 هـ , ووسعت فتوحاتها إلى أوروبا لنشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا في البوسنة والهرسك وألبانيا وبلغاريا وغيرها .
• محاربة الشِّيعة يقول ابن عابدين في (تنقيح الفتاوى الحامدية ) : " وقد أكثر مشايخ الإسلام من علماء الدولة العثمانية لا زالت مؤيدةً بالنصرة العليَّةِ في الإفتاء في شأن الشيعة المذكورين وقد أشبع الكلام في ذلك كثيرٌ منهم وألَّفوا فيه الرسائل وممن أفتى بنحو ذلك فيهم المحقق المفسِّر أبو السعود أفندي العمادي ونقل عبارته العلامة الكواكبي الحلبي في شرحه على منظومته الفقهية المسمَّاة الفرائد السنية ومن جملة ما نقله عن أبي السعود بعد ذكر قبائحهم على نحو ما مر فلذا أجمع علماء الأعصار على إباحة قتلهم وأن من شك في كفرهم كان كافرًا فعند الإمام الأعظم وسفيان الثوري والأوزاعي أنهم إذا تابوا ورجعوا عن كفرهم إلى الإسلام نجوا من القتل ويرجى لهم العفو كسائر الكفار ...ألخ" .
• تصدت للعداء الغربي الحاقد الذي كان يستهدف المد الإسلامي , فقد كانت الخلافة العثمانية تبسط سلطانها على العالم الإسلامي وهي آخر خلافة حكمت العالم الإسلامي , وكان المسلمون – على رغم ما في هذه الخلافة من ملاحظات ونقص – كانوا مجتمعين في الجملة في بلد واحد ولم تكن هناك حدود ولا جوازات و لا أنظمة تحول بين المسلم و بين أخيه المسلم في إقليميات ضيقة وقطع من الأراضي ممزقة بل كان العالم الإسلامي واحدًا فسعى العالم الغربي و الاستعمار لضرب هذه الخلافة .أ.هـ
ومما لا يخفى على الباحث الحصيف أن من أهداف الحرب العالمية الأولى هو القضاء على الدولة العثمانية , وبعدما سقطت الخلافة الإسلامية – الخلافة العثمانية – أصبحت البلاد الإسلامية لقمة سائغة في أيدي الأعداء.
• خدمة العلم والعلماء بخلع ألقاب وأوقاف ومنح عليهم , فكان المفتي فيها يُسَّمى بشيخ الإسلام وكانت له سلطة في الدولة قويةً جدًا , كذلك أُحترم القضاء مما كان له أثره الحميد على إقامة العدل , ولمعرفة المزيد في هذا يمكنك الرجوع إلى كتاب ( الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية ) لأحمد بن مصطفى بن خليل المشهور بطاشكبري زاده .
• منع قيام دولة يهودية على أرض الإسلام , فرغم كل الإغراءات التي عُرضت على السلطان عبد الحميد آن ذاك والتي كانت ستجعل منه أغنى رجل في العالم لم يوافق لليهود على إقامة دولة لهم داخل حدود إمبراطوريته – رحمه الله تعالى - .
ولكن الحق يقال أنه لم تخل هذه الدولة – كغيرها – من مجموعة عيوب ومخالفات نجملها في الآتي :
• النزعة المُتَصَّوِفة وإباحة بناء القبور في المساجد , ففي اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية يوجد (481) جامعًا لايكاد يخلو جامع فيها من ضريح , ومن غير شك أن هذه الأبنية والأضرحة مخالفة تمامًا لما جرت عليه الدول الإسلامية السُنْيَّة في بنائها للمساجد أو اعتقادها في الأضّرِحَةِ والنُصُبِ .
• انتهاج سياسة التتريك وإهمال اللغة العربية نوعًا ما , فكثيرًا ما يَحِنُّ السلاطين العثمانيون للغتهم الأصلية ويطغى هذا الاتجاه عليهم وعلى مناحي الحياة بعامة داخل الإمبراطورية العثمانية .
• عدم وقوف الدولة بكل حزم للأقليات العرقية والدينية التي كانت بطول الإمبراطورية وعرضها و التي كانت ضرب بكل قوة في كيانها الداخلي وخاصة اليهود الذين كانوا ينخرون كالسوس فيها .
شرعية الدولة العثمانية :
وفيما يتعلق بشرعية الدولة , فلها الشرعية من عدة وجوه , ذلك أن سلاطينها لم يتسمَّوْا بالخلفاء وإنما تسمَّوْا بالسلاطين وذلك ردًا على من أخذ بظاهر حديث " الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ " , نعم يشترط في الإمام أن يكون قرشيًّا في حال اختيار الإمام من أهل الحل والعقد، أما الإمام المُتَغَلَّبِ على الحكم بالقوة – وهذا حال سلاطين بني عثمان - فلا يشترط فيه القرشيَّة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "اسْمَعُوا وأَطِيعوا ولَو اسْتُعمِل عَلَيكُم عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ". أخرجه البخاري (7142)
وقال الحافظ في الفتح : (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المُتَغَلَّبِ ، والجهاد معه ، وأن طاعته خير من الخروج عليه ؛ لما في ذلك من حقنِ الدماء ، وتسكين الدهماء) ج 13 ، ص9
، فالإمام المسلم المُتَغَلَّبِ تجب طاعته، ولو لم يكن عربيًّا، فضلاً عن القرشيِّ - كما هو ظاهر هذا الحديث المتقدم والأحاديث الأخرى. والله تعالى أعلم.
فنعلم بذلك شرعية الخلافة العثمانية ولم يُفْتِ أيُّ عَاِلِمٍ سواء في عصرها – وقد أمتدت ستة قرون – أو بعد سقوطها بعدم شرعيتها وأنها الممثلة للمذهب السني في الأمة الإسلامية على رحابته آن ذاك.
علاقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدولة العثمانية :
لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى -صاحب دعوة سياسية حتى بعد تحالفه مع آل سعود وتكوين الدولة السعودية , ولكن كانت دعوة الشيخ دينية بحته , إذ ساءه ما آلَ إليه حالُ الناس في جزيرة العرب من التوسل البدعي بالقبور والأضرحة , فقام ينشر دعوته الإصلاحية , و يُحيى مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد , وكان ينظر إلى الدولة العثمانية كدولة خلافة لا يجوز الخروج عليها بأي حال من الأحوال , وهذا مذهبه الذي كان يراه , ومن كلامه في ذلك : (وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه) أ.هـ .
فهذا كلام واضح منه رحمه الله , ولم نعثر فيما كتب على أي فتوى تكفر الدولة العثمانية أو تشكك في شرعيتها , ولو صدرت فتوى لوصلتنا بدون أدنى شك , فليس من المعقول أن تنقل لنا كل أحداث ووقائع الدعوة ولا تأتينا فتوى في هذا الصدد .
ويرى كثير من الباحثين أن (نَجْدَ) لم تكن تحت الحكم العثماني و لا غيره وأنها كانت متروكة لحكم مشايخ القبائل ..
فيقول أمين سعيد في هذا الشأن:
(ولقد حاولنا كثيراً في خلال دراستنا لتاريخ الدولتين الأموية والعباسية، وتاريخ الأيوبيين، والمماليك في مصر، ثم تاريخ العثمانيين الذين جاءوا بعدهم وورثوهم، أن نعثر على اسم وال، أو حاكم أرسله هؤلاء، أو أولئك أو أحدهم إلى نجد أو إحدى مقاطعتها الوسطى، أو الشمالية أو الغربية أو الجنوبية، فلم نقع على شيء، مما يدل على مزيد من الإهمال تحمل تبعته هذه الدول..على أن الذي استنتجناه في النهاية هو أنهم تركوا أمر مقاطعات نجد الوسطى والغربية إلى الأشراف الهاشميين حكام الحجاز الذين جروا على أن يشرفوا على قبائلها إشرافاً جزئياً).أ.هـ
وفي هذا الصدد يقول الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى - :
(لم يخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة العثمانية - فيما أعلم وأعتقد -، فلم يكن في نجد رئاسة ولا إمارة للأتراك بل كانت نجد إمارات صغيرة وقرى متناثرة، وعلى كل بلدة أو قرية - مهما صغرت - أمير مستقل … وهي إمارات بينها قتال وحروب ومشاجرات، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرج على أوضاع فاسدة في بلده، فجاهد في الله حق جهاده وصابر وثابر حتى امتد نور هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى …)
هذا والله تعالى أعلى وأعلم بالصواب والحق ..