التبذير وضوابطه الشرعية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد :
التبذير لغةً : يقول الصاحب بن عباد في كتابه ( المحيط في اللغة ):
والتَّبْذِيْرُ والتَّبْذِرَةُ: إفْسَادُ المالِ وإنْفَاقُه في السَّرَفِ, ورَجُلٌ بَذِرٌ: مُبَذِّرٌ، وبَيْذَارَةٌ وتِبْذَارَةٌ.
التبذير شرعًا :التبذير هو إتلاف المال في الحرام أو ما يفضي إلى الحرام .
قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم : التبذير هو الإنفاق في غير حق.
وقال مُجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مُدًَّاً في غير حق كان مبذرًا .
وقال قتادة : التبذير النفقة في معصية الله تعالى وفي غير الحق والفساد .
قال الشافعي رضى الله عنه: والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير, وهذا قول الجمهور.
وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الاسراف، وهو حرام لقوله تعالى: " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " وقوله:
" إخوان " يعنى أنهم في حكمهم، إذ المُبَذِرُ ساعٍ في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تُسَـوِّلُ لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدًا في النار، ثلاثة أقوال.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : فِي التَّبْذِيرِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ .
قَالَ الزَّجَّاجُ : فِي غَيْرِ طَاعَةٍ ، وَالثَّانِي : الْإِسْرَافُ الْمُتْلِفُ لِلْمَالِ { إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } .
وفَرَّقَ بعضهم بين الإسراف والتبذير فقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : التبذير الجهل بِموضِِع الحقوق ، والإسراف الْجهل بِمقاديرِها .
النهي عن التبذير في كتاب الله عز وجل :لقد أمرنا الله تعالى بالاعتدال في النفقة فقال سبحانه " وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ "
وروى عبدُ بنُ حُمَيد في تفسيره عن الحسن: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال: ذلك ألا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس.
- قال اللهُ عز وجل " وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا " (سورة الإسراء الآية27)
روى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى " ولا تُبَذر تبذيرًا " قال : إنفاق المال في غير حقه .
وروى مَعْمَـرٌ عن علي رضي الله عنه قال : « ما أنفقت على نفسك ، أو على أهل بيتك في غير سرف ، ولا تبذير فلك ، وما تصدقت رياءً وسمعةً ، فذلك حظ الشيطان »
وأما إنفاق المال في حقه فلا يطلق عليه اسم التبذير , والشرع يحث عليه كثيرًا ومن ذلك مثلاً ما ثبت في صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( قال اللهُ أنفق يا ابن أدم أنفق عليك ) , يقول مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مُدَّاً في غير حق كان مبذرًا .
ويقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره لقوله تعالى " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " : فإنه يعني: إنّ المفرّقين أموالهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته أولياء الشياطين، وكذلك تقول العرب لكلّ ملازم سنة قوم وتابع أثرهم: هو أخوهم.
- وقال اللهُ تعالى : " وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا " (سورة الإسراء 29).
يقول الحافظ ابن كثير : وقوله: { وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } أي : ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا.
ويقول الإمام الألوسي في هذه الآية : تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجراً لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط وذلك هو الجود الممدوح فخير الأمور أوساطها .
- ويقول اللهُ تعالى : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا " (سورة الفرقان67)
أخرج ابن أبي شيبة في باب الإسراف في النفقة من المصنف: عن إبراهيم في قوله تعالى " والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا " قال لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس أسرف فيها .
يقول الحافظ ابن كثير : أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا .
- وقال اللهُ تعالى :" وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " (سورة الأنعام 141- سورة الأعراف 31)
يقول ابن حزم في المحلى : مَسْأَلَةٌ: وَالسَّرَفُ حَرَامٌ, وَهُوَ النَّفَقَةُ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ, وَلَوْ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ قَدْرِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ أَوْ التَّبْذِيرُ فِيمَا لاَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ضَرُورَةً مِمَّا لاَ يَبْقَى لِلْمُنْفِقِ بَعْدَهُ غِنًى أَوْ إضَاعَةُ الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ بِرَمْيِهِ عَبَثًا; فَمَا عَدَا هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ سَرَفًا وَهُوَ حَلاَلٌ وَإِنْ كَثُرَتْ النَّفَقَةُ فِيهِ .
- ويقول الحَقُ سبحانه وتعالى : " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا " (سورة النساء 5) .
إن السَّفَهَ مَظَنَّةُ التبذير ولذلك منع اللهُ تعالى القائمين على أموال السفهاء - وهم الصغار والنساء - إعطاء الأموال لهم حتى يأنسوا منهم الرشد وحسن التصرف في أموالهم ’ ومن عُلِمَ منه تبذيرًا و لو لم يكن من الصغار أو النساء حُجِرَ عليه , كما هو مذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة.
ما جاء من الأحاديث والآثار في النهي عن التبذير :
- عن المغيرة بن شعبة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات . وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : قوله (وإضاعة المال) تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا سواء كانت دينيةً أو دنيويةً فمنع منه لأن الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره ويستثنى من ذلك كثرة انفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويًا أهم منه.
- وقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة ).
وقول ابن عباس رضي الله عنهما : « كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف أو مخيلة »
رواهما البخاريُّ تعليقًا ووصلهما ابن حجر .
- وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ؟ وعن شبابه فيما أبلاه ؟ وماله من أين اكتسبه ؟ وفيما أنفقه ؟ وماذا عمل فيما علم ) صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة .
- وفي جامع معمر :عن علي ، قال : « ما أنفقت على نفسك ، أو على أهل بيتك في غير سرف ، ولا تبذير فلك ، وما تصدقت رياءً وسمعةً ، فذلك حظ الشيطان »
هذا والله تعالى أعلى وأعلم بالصواب والحق .