تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الشعر والجذور العقدية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,464

    افتراضي الشعر والجذور العقدية

    الشعر والجذور العقدية


    د. محمد ويلالي

    تحقيق العلاقة بين الدين والشعر:
    لماذا نُقحِم الدِّين في الشعر؟ هل بينَهما علاقة ما؟ وإذا كانت، فهل هي علاقة تَراحُم وتوادُد، أم هي علاقة تنافُر وتباعد؟ أليس الشعر تعبيرًا عن أشواقٍ إنسانية، وترجمةً لأحاسيسَ داخلية، ودغدغةً وجدانيَّة، قد لا يتحكَّم فيها عقلٌ ولا دين...؟

    إن الإجابة عن هذه التساؤلات المهمَّة تقتضي الوقوفَ عند ثلاثة محاورَ أساس:
    1 - إن الأعمال الإنسانية في جميع مجالاتها - ومنها الشعر - داخلةٌ تحت مفهوم "الإحسان" الشَّرعي، الذي أُمِرنا به في قول النبي: ((إن الله كتَب الإحسان على كل شيء))[1]، ولا معنى لتفَلُّت الفنِّ بعامَّة والشعر بخاصة مِن هذا العموم، ولو كان هناك مخصِّصٌ لوجَدنا له جُذورًا في النصوص الشرعية الوفيرة التي تحدَّثَت عن الشعر.

    2 - إن مفهوم "الدين" الحقيقي الذي نقصده، لا يتعارض - البتَّة - مع الشعر، ولا يُجانِفه، بل يَحضنه، ويسير به في الاتجاه الصحيح، دون أن يلتفَّ عليه، أو يحدَّ من أشواقه وسَبَحاته؛ إذ ليس معنى "الدين" مقصورًا - فقط - على تصحيح العلاقة بين الخالق والمخلوق، وما يَستتبع ذلك من الشعائر التعبديَّة، بل له مَعانٍ متعددة، تدل على أنه أوسعُ من ذلك؛ مِن هذه المعاني: ما يتديَّن به الرجل، والحال، والسلطان، والورَع، والقهر، والمعصية، والطاعة، والعادة، والحساب، والمُلك، والحكم، والقضاء، والتدبـير[2].

    (فكلمة "الدين"، و"الدين الإسلامي"، تختلف عما رَسخ في أذهان كثير من الناس، وعما تُوحيه الكلمة الأجنبية "religion"، وبعض الشعارات مثل: "الدين لله، والوطن للجميع")[3].

    وهذا العموم يجعل "الدين" أرحبَ مِساحةً، وأكثر شمولية، حتى يكون الشعرُ أحَد أجزائه، فلا تعارُض ولا تَنافٍ.

    3 - إنَّ نظرةً عُجْلَى إلى تاريخ نشأة الشعر تُبين أنه ترعرَع في مَحضِن الدين والمعتقَد منذ ظهوره، وأن (الأدب والدين مُتلازمان في حياة الإنسان، وكلٌّ منهما مغروس في فطرته، يَنبعان منها، ثم يَمضيان مُتلازِمَين في التاريخ البشري)[4].

    بل إن الحضارةَ لا يمكن أن تَمضي في الطريق القويم إلا بالدين، ومتى تخلَّفَت الأديان، بارَت هذه الحضارات وبادَت. وكان ذلك حالَ الأمم المذكورة في القرآن الكريم؛ كـ"عاد"، و"ثمود"، و"قوم فرعون"، و"قوم لوط"... الذين إنما بادوا - على الرغم مما كانوا عليه من قوة وتقدم وحضارةٍ - بسبب فَسادهم العقَدي، وخروجِهم على أنبيائهم، وتمرُّدِهم على أديانهم.

    الشعر والجذور العقدية:
    لقد دلَّت الدراسة الحديثة للجذور الأولى لفنِّ القول على أنَّ الأدب لم يَنشَأ - في أيِّ زمان، وفي أي مكان - منعزِلاً عن ظاهرة المعتقَد، بل إنه لا يُمكن تصوُّر أن (يعيش الأدب منضوحَ البيان بالسِّحر الحلال وفصل الخطاب، إلا في حِمى الدين)[5].

    وهذا ما أجمع عليه دارسو تاريخ الآداب العالميَّة - بحسب ما وقَفتُ عليه - وخلافهم إنما كان مَبنيًّا على أسبقيَّة الوثنية على التوحيد أو العكس، لا غير.

    وحتى الذين انتَصروا لنظرية التطور، فجَعلوا الإنسان قد تطور عبرَ مراحل: مرحلة "الإنسان المائي"، ومرحلة "الإنسان البرِّمائي"، ثم مرحلة "الإنسان البرِّي"، لم يخرجوا عن الإيمان بأن (الإنسان عرَف الدينَ في هذه العصور النائية من التاريخ البشري، وإن كانوا يَختلفون في كيفية تديُّنهم أولَ مرة، إلا أنهم متفقون على أن الوثنية قد سبقَت في تاريخه - أي: الإنسان - التوحيدَ، والكثير منهم يَرى أن أول معرفة الإنسان بالدِّين كانت على الطريقة المعروفة عنـد بعض الباحثين المتأخِّرين بـ"الطوطمية"[6])[7].

    ونحن المسلِمين نَعتقد أن أول مخلوق بشري هو "آدم" عليه السلام خَلَقه الله تعالى لعبادتِه، وأسجَد لـه ملائكته، فسَبَبُ خلق الإنسان دينٌ وعبادة.

    وإذا كان التديُّن هو الهواءَ الذي يتنفَّسه الإنسان منذ وجد، والذي يَملأ عليه حياته وكِيانَه من كل جوانبهما، فلا بد لـه من دَخْلٍ في النشاطات الإنسانية كلها، بل وجَدنا الديانة حاضرة (بكثرة في الأدب، وكأنها تبرهِن على دورها البارز في الوسـط والمحيط الذي يعيش فيه الكاتب)[8].

    وتقرَّر عند المهتمين أن الأدبَ ساعد الشعوب القديمة على معرفة أسرار الوجود، وتعليل أسباب الأشياء، وعلى رأسها البحثُ عن الخالق، الذي نُسِجَت الأناشيد الدينية من أجله؛ تمجيدًا وتخليدًا، وابتهالاً وتعبُّدًا[9].

    والأدب اليوناني - الذي يعتبر أقدمَ ما وصَلَنا من الأدب - يعبِّر بشدة عن هذا اللصوق بالدين والمعتقد؛ فقد أوضَح الدارسون أنه (ورد في بعض الأساطير اليونانية أنه قد ظهَر في أقدم العصور التاريخية عددٌ من الشعراء الغنائيين الدينيين؛ أي: الذين تدور قصائدهم حول الشؤون الدينية؛ كتمجيد الآلهة، والتوسل إليها، وما إلى ذلك)[10].

    فانظر إلى أيِّ مدًى أُشْرِبَتِ الفنونُ الأدبية اليونانيةُ العقيدةَ، حتى اختلطَت بها، فصاروا يَصدُرون عنها، ويتمثَّلونها في أناشيدهم وأهازيجهم ورقصاتهم، وشِعرهم ونثرِهم! فقد (ارتبطَ أدب قدماء اليونان ارتباطًا وثيقًا بمعتقداتهم الدينية، ومعبوداتهم التي أَلهـمَت الشعـراء والكتاب)[11].

    ومن خلال دراسة ممحصة دقيقة، توصَّل الدكتور: "محمد صقر خفاجة" إلى أن (الأناشيد والملاحم، هي أول فنون الأدب اليوناني، ظهرَت في فترة ما قبل التاريخ - أو عصر الأبطال والأساطير - وتبدأ هذه الفترة بنُزوح القبائل الآرية إلى بلاد اليونان في القرن الخامسَ عشر قبل الميلاد، وتنتهي في منتصف القرن الثامنِ قبل الميلاد - تقريبًا - وأهم آثارها الأدبية: التراتيل الدينية والملاحم)[12].

    ويعتني "جُرجي زيدان" بتقسيم آداب اللغة اليونانية إلى أطوار سبعة، ويبين أن الطَّور الأول منها - وهو العصر الخرافي - (يُراد به أقدم أزمان الأمة اليونانية، ولم يبقَ منها إلا القصص الخرافية عن الآلهة ونحوهم، مما يسمى في اصطلاح الإفرنج: "ميـثولوجيا" -mythology - وهو يبدأ قبل زمن التاريخ، وينتهي إلى القرن التاسع قبل الميلاد)[13].

    كما أن (المسرح اليوناني نشأ في أحضان طقوس دينية، كانت غالبًا ما تؤدَّى في معابد، ويُتوسَّل فيها بالقَصص الأسطوري، وترتيل الأناشيد الدينية)[14]، (كما ارتبطت المسرحيات عندهم بأناشيد الجوقة، فكان الشعراء يَهْدُونَ قومهم بالخيال والعاطفة إلى الحكمة، في طريق محلًّى بزهور الكلمات والنغمات)[15].

    ومن أنضجِ ما وصلنا من الأدب اليوناني: "الإلياذة - iliad" وهي أربعة وعشرون نشيدًا دينيًّا، و"الأوديسا - odyssey"، وهي كذلك أربعة وعشرون نشيدًا دينيًّا[16].

    ويُضاف إلى ذلك أن الخطابة - كالشِّعر - كانت مشحونة بالتصورات العقدية، معبرة عن خلجات أنفسهم، التي مُلئت صورًا للآلهة، وقصصًا وأساطيرَ وطُقوسًا.

    أما آداب الروم فكانت (أوائلُ منتوجاتها مستهَلَّة بالأناشيد الدينية، وإن أنشودة الأناشيد التوراتية "مزامير داود"، توقيعاتٌ عبادية)[17]. يقول: "ف. وايت داف": (ومن المحال أن نقرأ "ليفي" دون أن ندرك على الدوام التوكيدَ الذي وضَعه الرومان على الخوارق... وإرادة الآلهة، وقيام الناس بالطقوس كما يجب؛ فالنظرة العملية في الديانة الرومانية تقابل الإنسان في كل مكان: في أصولها، وتطورها، وتطبيقها على الدار وعلى الدولة، وتحويرها الدقيق، وتسامحها نحو الأديان الجديدة)[18].

    أما الشعر "السَّاتُرْني" - وهو من أقدم الشعر اللاتيني بعد اليونان بقليل - فإن الموضوعات الدينية أو الحماسية أو الشعبية، كانت أهم ما عولج فيه، (وتدل الإشارات القديمة - وكذلك طبيعة الأشياء - على أن الديانة بسطَت رعايتها على هذا الشعر في بدايته)[19].

    أما (إذا ذهبتَ بالفكر إلى الهند، وجدتَ أناشيد "فيدياس" أوائل التراتيل الدينية الشعرية الصَّبيغة بالأدب؛ فتلك الأناشيد الهندية السحيقةُ في أزمانها اتخذَت الأدب وسيلة لظهورها، فكان الشعراء فيها أولَ العابدين)[20].

    وكانت الكتابة "السريانية" في أوربا - قبل المسيحية - (لغة الدين والأدب والعـلم، في "حرَّان" مَعقِل الوثنية، في ما بين النهرين)[21]، ثم بعد مجيء المسيحية أصبح (المؤلفون متأثِّرين بأسلوب الكتاب المقدَّس، وكثرت في كتاباتهم الاصطلاحات والاستعاراتُ المستَقاة من الكتاب المقدس)[22]، بل كانت الكتابات التي لا تُساير رَكْب الديانة النصرانية تُعزَل عن العالم، ويُحال بينها وبين الخروج من معقلها، لا لشيء إلا لأنها لم تُساير العقيدة، ولم تُوافق آراءها[23].

    والدارسون يرَون أن الآداب الأوربية يجري عليها المقياسُ نفسُه الذي عرَفَته آداب اللغة اليونانية؛ فقد عقَّب "جورجي زيدان" - بعد أن ذكَر الأطوار والمراحل التي مر بها الأدب اليوناني - قائلاً: (هذه خلاصة تاريخ آداب اللغة اليونانية، فقِسْ عليها تواريخ سائر اللغات الأوربية؛ فإنها كثيرةُ الشَّبه بها، من حيث تناسُقُ عصورها، بالنظر إلى نُشوء العلوم فيها؛ فإن أقدم آدابها - دائمًا - الشعر الديني، يليه الشعر القصصي التمثيلي، فالغنائي...)[24].

    وهكذا كانت الآداب الأوربية القديمة متأثرةً بروح الدين، لم تنفكَّ عنه أبدًا، وحتى أولئك الزائغون الثائرون، لم يتخلَّصوا من العقيدة، وإن تنصَّلوا من النصرانية أو غيرها من الديانات السائدة.

    فإذا انتقلنا إلى "الأدب الفارسي" وجَدْناه غيرَ منفصل عن سُنَّة الآداب الأخرى، من حيث امتزاجُه بالعقيدة، والتعبيرِ عنها. وقد جانب الصوابَ مَن أغفل ربْط الحماسة بالآلهة والأبطال - كما يجب أن يَكون - وكذلك فعل "الفردوسي" في "الشاهناما".

    وهذا ما يعبِّر عنه أحد الباحثين المحدَثين بقوله: (وجاء الشعراء بعد "الفردوسي" ينسجون على مِنواله، وفيهم جماعةٌ اتخَذوا من ملوك عصرهم أبطالاً، نظَّموا لهم "الشاهنامات"، وخفي عليهم أن الشعر الحماسيَّ يجب أن يكون لـه مادةٌ من الأساطير، تجعل جوَّه مليئًا بآثار القدم، تجول فيه الآلهة والأبطال، بعواطفهم الكبيرة، وأعمالهم العظيمة، محاطين بِهالةٍ من الخيال)[25].

    وبتجميع ما تم الحصول عليه من نقوشٍ متفرقة على الأحجار، والأواني، والآلات، والموازن الحجرية، وفصوص الخواتم الأثرية، ودراسة كل ذلك - يتبيَّن أن هذه النصوص كلَّها تدل على ما عرَفوه مِن أسماء الملوك، وتدوين شرحٍ لأحوال المماليك والفتوحات، وما تم فيها من إنجازات، (وكذلك تتضمَّن مدح الخالق، وتقبيحَ الكذب، وكلِّ ما هو سيئ)[26]، كما أنه نشأَت عندهم لغة خاصة هي لغة "الأفستاء"، اهتمت بأمور الدين، واختص بها رجاله، وكانت تطلق على (لغة كتاب "زرادشت" الديني، وهي في الحقيقة لغةٌ من اللغات الإيرانية، ذات قرابةٍ بالفارسي القديم، وكانت هذه اللغة خاصة برجال الدين، والكتب المقدسة)[27].

    و"الأفستاء" - هذه - عبارةٌ عن (تراكيب أدبية، وجمل فصيحة قويَّة في حمد الله، وفي وصف الصنيعة، كما أن قِسمًا منها منظومٌ مقفًّى، وهو القسم المسمى بـ"الكاتا"، وهي عبارة عن أدعية ومناجاة، وأشعار أخلاقيَّة قيِّمة، كما أنها تَعرض ألطفَ العواطف الدينية في ذلك العصر)[28].

    ولغة النصوص - هذه - توضِّح وضوحًا جليًّا أن حبل العقيدة قد انتظَم آدابَ الأمم الخالية بدون استثناء، وأن هذه العلاقة مطَّرِدة في كلِّ أمة.

    ولنا - بعد هذا - أن نتَساءل عن موقع الأدب العربي من هذه العلاقة.

    خُلاصة ما توصَّل إليه الدارسون أن العلاقة الأولى للشِّعر الجاهلي كانت بـ"السِّحر"، وذهب آخرون إلى أن الشعر الجاهلي كان وطيدَ الصلة بـ"الكهانة"، وأثبت فريق ثالث أن "الأدب العربي" قيل معبِّرًا عن "طقوس دينية" كسائر الآداب.

    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,464

    افتراضي رد: الشعر والجذور العقدية

    الشعر والجذور العقدية


    د. محمد ويلالي


    ومهما يكن الأمر فقد ثبَت أن السِّحر والكهانة "مُترادفان عند الأمم الوثنية، وأنَّهما جزءٌ من طقوس العقيدة؛ فالكاهن والساحر شخصيتان دينيَّتان، يلجأ إليهما الوثنيُّ ليحلَّ مُعضِلاته، وارتباط أوَّليات الشعر بهما يَعني ارتباطَه العميق بالعقيدة"[29].





    يقول "كارل بروكلمان": (وإذا نحن صرَفنا النظر عن باب الهجاء من ذلك الشعر، وجدنا الروابط التي كانت تربط بين الشعر، والتصورات السِّحرية والدينية عند العرب كما هو عند غيرهم من الشعوب البدائية الأخرى، قد انحلب تمامًا في الشعر العربي)[30].



    فالعربيُّ كان يَفزَع إلى قوة معيَّنة عند الملِمَّات والخطوب، وكانت هذه القوة متمثلة في السحر، باعتباره أداةً مذهلة خارقة، تَستطيع تفسير الغيب، وتحليلَ عالم الجن والشياطين والماورائيَّات، ولهذا اندهش العربُ ببلاغة القرآن الكريم فقالوا: هو "سِحر"، وقالوا في النبي صلى الله عليه وسلم: هو "ساحر".



    ونقل "حنا الفاخوري" قول "نولدكه"، بأن الشاعر كان (نبي قبيلته، وزعيمها في السِّلم، وبطَلها في الحرب)[31].



    وذهَب "أحمد حسن الزيات" إلى أن نشأة الشعر العربي قد ارتبطَت "بالكهانة"؛ فقد مرَّ هذا الأدب بأطوار مختلفة، كانت "الكهانة" أولها.



    (والمظنون أنَّ العرب خَطَوا من المرسَل إلى السَّجع، ومن السجع إلى الرَّجَز، ثم تدرَّجوا من الرجز إلى القصيد، فالسجع هو الطَّور الأول من أطوار الشعر، توخَّاه الكُهَّان مناجاةً للآلهة، وتقييدًا للحكمة، وتعمية للجواب، وفتنةً للسامع)[32].




    ثم يقرن "الزيات" بين هذه النشأة، ونشأة "الأدب اليوناني"، فيقول: (وكهَّان العرب ككهان الإغريق، هم الشعراء الأوَّلون)[33].



    وعرَفنا من خلال القرآن الكريم أن العرب كانت لهم طُقوسهم الدينية في الطَّواف حول الكعبة بالصفير والتصفيق[34]، وكانوا يُلَبُّون بمثلِ ما أثبَت الشاعر: [مجزوء الرجز]



    لبيكَ ربَّنا لبيكْ

    والخيرُ كلُّه إليكْ



    لبيكَ إنَّ الحمدَ لك

    والملك لا شريكَ لكْ



    إلا شريكٌ هو لكْ

    تملكُه وما مَلَكْ[35]





    كما اتَّخَذوا لأنفسهم أصنامًا وأوثانًا كانوا يَعبدونها ويتقربون إليها، ويطوفون بها؛ كما ورد في قول امرِئ القيس: [طويل]

    فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنَّ نِعاجَه عَذارى "دَوارٍ" في مُلاءٍ مُذَيَّلِ[36]



    و"دَوَارٌ" هذا نسُك كانوا في الجاهلية يَدورون حوله[37].





    ومن مظاهر ارتباط هذا الشعر بالمعتقد أنهم كانوا يرَون أن لكل شاعر شيطانًا، يُلهِمه الشعر، ويقوله على لسانه، حتى جعلوا الشياطين قبائل؛ "فحسان بن ثابت" - مثلاً - كان شيطانه مِن بني " الشَّيْصُبانِ"[38]، كما يقول: [متقارب]



    إذا ما تَرَعْرَع فينا الغُلامُ

    فما إنْ يُقالُ له مَنْ هُوَهْ



    إذا لم يَسُدْ قبلَ شَقِّ الإزارِ

    فذلكَ فينا الذي لا هُوَهْ[39]



    ولِي صاحبٌ مِن بَني الشَّيْصُبانِ

    فطَوْرًا أَقولُ وطَورًا هُوَهْ[40]





    ويَدلُّ شعر زُهير بن أبي سُلمى على ترسُّخ الجانب الديني في المجتمع الجاهلي؛ لما تضمَّنه من أبيات الحكمةِ والتفكُّر في الوجود، ومظاهرِ الخلق؛ كقوله: [طويل]



    فلا تَكتُمُنَّ الله َما في صُدورِكُم

    لِيَخْفى ومَهما يُكتَمِ الله ُيَعْلَمِ



    يؤخَّرْ فيوضَعْ في كِتابٍ فيُدَّخَرْ

    لِيومِ حِسابٍ أو يُعَجَّلْ فيُنْقَمِ[41]





    ويُعتبر الأعشى آخِرَ مَن ذُكر "الدِّين" على لسانه من الشعراء الجاهليين، وذلك في قوله: [طويل]







    فآليتُ لا أَرثِي لها مِنْ كَلالةٍ

    ولامِن حُفًى حتى تُلاقِيَ أَحْمَدا[42]



    متى ما تُناخي عندَ بابِ ابْنِ هاشِمٍ

    تُرَاحِي وتَلقَيْ مِن فَواضِلِه نَدَى[43]





    وليس بعيدًا أن يُستنتج من تلقيبه "بصناجة العرب" أن شعره كان ترتيلاً ولحنًا، يمكن أن يَنطويَ على سِماتِ أشعارٍ دينية، حتى قال د. زكي المحاسني: (وقد غلَوتُ، فردَدتُ هذه النَّزعة إلى الشعر الديني الجاهلي، الذي لم يَصل إلينا، ولستُ أشك أنه كان لحنًا عباديًّا في أصوله البعيدة)[44].



    أما الكتابة التي عرَفها الجاهليون[45] فقد كانت موضوعاتُها ذاتَ صلة وثيقةٍ بالمعتقد، وتعبيرًا دينيًّا عن الكون والخلق والآلهة؛ تمامًا كالشِّعر.



    وبعد مَجيء الإسلام حدَثَت ثورة كبيرة في المجالات كلِّها، بما فيها الأدب: شعرُه ونثرُه، وكانت كل العلوم التي ظهرَت تَستقي مادتَها مِن القرآن والحديث، واستُنفر الشعراء للدِّفاع عن الدين الحقِّ، فتولَّد لأول مرة ما اصطُلِح عليه بـ"الشعر الإسلامي"، الذي عَرَف تجديدَا على مستوى الشكل والمضمون، وصار الدين الجديد يُمدُّه بشتى الموضوعات التي لم تَكن مطروقةً من قبل، وزاد من إذكاء هذا الشعر ما عرَفه المجتمعُ الإسلامي من تقلُّبات سياسية، وأحداثٍ تاريخية.



    فإذا ما انتقَلنا إلى الآداب الأوربية الحديثة، وجَدناها غيرَ بعيدة عن هذه العلاقة التأثرية بين الدين والفن، فقد انبثَقَت مذاهبُ أدبية، صادرةٌ عن معتقَدات راسخة، وفلسفات معيَّنة، وتفسيرات للكون والحياة، وعلاقات الإنسان بالآخر، وتصوراته للغيب، وما وراء المادة... "فالرومانسية"[46] تخرج على الكنيسة؛ لتجعل لنفسِها دينًا آخَر؛ هو "الطبيعة". و"الواقعية الاشتراكية"[47] تَرفض العالم الغيبي، وتعتبر الدين الحقيقيَّ دائرًا في فلَك "المادة"، منطلِقةً من فلسفة ذَوَبان الفرد في الجماعة. و"الوجودية"[48] تَفلَّتَت بدَورها من كل قيدٍ لتعبُدَ الذَّات... وهكذا كل المذاهب الأخرى التي جاءت بعد "الوجودية"، لم تكن بِمَنأًى عن المعتقد.



    ونحن إذا ما استقرَأنا بعض أقوال كبار الفلاسفة والشعراء الغربيين، وجدناهم يؤمنون بأن الفنَّ لا يَصدُر إلا عن عقيدة، وأن الدين والفنَّ صِنْوان، لا تَجافيَ بينهما ولا تَعارُض ولا تدابُر؛ يقول الشاعر والأديب فيكتور هوجو (1802م - 1885م): (يُعتبر الشَّاعر بمثابةِ نبي، يُطلَب منه أن يَقود شعبه نحو الكمال)[49]. والشاعر الإنجليزي "شيلِّي" (1792م - 1822م) يرى (أن الشعراء هم مُشرِّعو العالم غير المعترف بهم)[50]. والفنان الهولندي (موندريان - يرَى في الفن نُسكًا وتطهيرًا، ويعتبره وسيلة للوصول إلى الحقيقة المطلقة. و"هنري برجسون"[51] يرى أن الفن هو الدين.. و"جايتان بيكون"[52] يذهب إلى أن الفن كخَلْق - وعلى الأخص الشعر - وكتعبير عن الوجود، يظل يكافح ليكون بديلاً لما هو مقدَّس؛ ليصبح مِهنة مقدَّسة)[53].



    من هنا يَرى بعض الغربيين (أن فكرة "العبَثيَّة"[54] لا يمكن الدفاع عنها في عالَمٍ تثبت الأرقام أن غالبيَّة سكَّانه يعتقدون بديانة، تجعل الحياة ذاتَ نظام وهدف)[55]، فلا غرابة - إذًا - أن يقرِّر "أرنولد تونبي"[56] (أن أزمة الحضارة في الغرب هي الدين، وأن الحضارة الغربية المتدهورة لا يمكن إنقاذُها إلا بالدين)[57].



    هكذا نَلحظ أن العلاقة بين الدِّين والفن علاقة صميمية منذ فجر التاريخ، ولا يمكن تَعليل هذا الارتباط التاريخي، إلا بكون (الدِّين فطرة نابعة من وجود البشر، ضاربة بجذورها في نفوسهم؛ هناك قوة جاذبة، تشدُّ المخلوق إلى الخالق، وتربطه ارتباطًا وثيقًا، لا فكاك منه)[58].



    ولا نُكرانَ علينا - بعد كلِّ هذا - في مُحاولتِنا السعيَ في العَود بالشعر إلى أصله، وأَرْزِه إلى وَكْره، وإرجاعه إلى مَحضِنه؛ ليُعبِّر عن هواجس الشاعر المسلم وَفْقَ تصور الإسلام للأشياء.







    [1] "صحيح مسلم"، كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، الحديث رقم: 1955.




    [2] ينظر: "اللسان: دين"، و"المعجم الوسيط: دين".




    [3] "الحداثة في منظور إيماني"، د. عدنان رضا النحوي، ص: 20 - 21.




    [4] مقال: "رسالة الأدب بين منهجين وحضارتين"، د. رضا النحوي، المشكاة "الملتقى"، 1998، ص: 89.




    [5] "الأدب الديني، دراسة أدبية عن القرآن والحديث"، د. زكي المحاسني، ص: 4.




    [6] "الطوطم" (TOTEM): "معبود تعبده القبيلة، يكون في الغالب حيوانًا معينًا، تعتقد القبيلة أن دماءه تجري في كل فرد من أفرادها، وهم يقدسونه، فلا يذبحونه، إلا في مناسبات دينية خاصة، وعندئذ يشربون دماءه لتَجري في عروقهم من جديد. ولكل قبيلة طوطمُها الخاص".



    [7] "الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة"، عبدالقادر شيبة الحمد، ص: 11، 12.




    [8] "تاريخ الأدب الروماني" تأليف: ف. وايت داف، ترجمة: د. محمد سالم سالم، ج: 1، ص: 68.




    [9] ينظر: "الأدب الديني"، ص: 3.




    [10] "الأدب اليوناني القديم"، د. عبدالواحد وافي، ص: 58.




    [11] "النقد الأدبي عند اليونان"، د. بدوي طبانة، ص: 11.




    [12] "تاريخ الأدب اليوناني"، ص: 17.




    [13] "تاريخ آداب اللغة العربية"، ج: 1، ص: 21.




    [14] "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه"، د. عباس الجراري، ص: 248.




    [15] "النقد الأدبي الحديث"، د. غنيمي هلال، ص: 365.




    [16] للمزيد من التفصيل في هذا الموضوع، ينظر: "النقد الأدبي عند اليونان"، بدوي طبانة، ص: 27، و"الأدب المقارن"، د. غنيمي هلال، ص: 144، 147.




    [17] "الأدب الديني"، ص: 3.




    [18] "تاريخ الأدب الروماني"، ص: 68.




    [19] نفسه، ص: 100.




    [20] "الأدب الديني"، ص: 9.




    [21] "تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى الفتح الإسلامي"، د. مراد كامل و د. محمد حمد البكري، ص: 20.




    [22] نفسه، ص: 15.




    [23] نفسه، ص: 21.




    [24] "تاريخ آداب اللغة العربية"، ج: 1، ص: 23.




    [25] "محاضرات عن الشعر الفارسي والحضارة الإسلامية في إيران"، د. على أكبر فياض، ص: 24.




    [26] "تاريخ الأدب الفارسي"، د. رضا زادة شفق، ترجمة: محمد موسى هنداوي، ص: 2.




    [27] نفسه، ص: 5.




    [28] نفسه.




    [29] ينظر: "مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي"، د. عبدالباسط بدر، ص: 21.




    [30] "تاريخ الأدب العربي"، كارل بروكلمان، ج: 1، ص: 55.




    [31] "تاريخ الأدب العربي "، حنا الفاخوري، ص: 59.




    [32] "تاريخ الأدب العربي"، أحمد حسن الزيات، ص: 28، 29.




    [33] نفسه، ص: 29.




    [34] كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ﴾ [الأنفال: 35].




    [35] ينظر: "الحياة العربية من خلال الشعر الجاهلي"، د. أحمد الحوف، ص: 400.




    [36] ديوان امرئ القيس، ص: 8.




    [37] ينظر: "شرح القصائد العشر" للخطيب التبريزي، ص: 79.




    [38] هو أبو حي من الجن، "اللسان: شصب".




    [39] أي: ليس منا.




    [40] ينظر كتاب: "الحيوان "، الجاحظ، ج: 6، ص: 231. والأبيات في ديوان حسان بن ثابت، ص: 252.




    [41] "شرح القصائد العشر"، الخطيب التبريزي، ص: 179، 180.




    [42] "الكلالة": من الكَلِّ، وهو من لا ولد له ولا والد؛ "مختار الصحاح: كلل".




    [43] "ديوان الأعشى"، ص: 47.




    [44] "الأدب الديني"، ص: 4.




    [45] للوقوف على تفاصيل علم الجاهليِّين بالكتابة؛ يُنظر: "تاريخ الأدب العربي" لبروكلمان، ج: 1، ص: 63، "ومصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية"، د. ناصر الدين الأسد، ص: 59.




    [46] (الرومانسية "Romanticisme: مذهب أدبي نشأ في أوربا أواخر القرن الثامنَ عشر وبداية القرن التاسع عشر؛ "ثورةً على المبادئ والنواميس الجمالية الموروثة من أرسطو، مع تغليب الجانب الوجداني والإحساس بالحزن والقلق، والسباحة في عالم الأحلام، وتضخيم "الأنا"، ومن ثَم كانت الرومانسية تمثل ردَّ فعل تجاه تقعيدات الكلاسيكية)؛ "معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة" د. سعيد علوش، ص: 62.




    [47] جاء في "معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب" لمجدي وهبة وكامل المهندس، ص: 429: (ورد تعريف هذه النظرية رسميًّا في إحدى مواد دستور اتحاد كتاب السوفيت، الذي وضَعه أول مؤتمر عام لهذا الاتحاد سنة 1934، ونص المادة هو: إن الواقعية الاشتراكية، هي المنهج الأساسي للأدب والنقد الأدبي السوفيتين، وهي تتطلب من الفنان أو الأديب تمثيلَه الواقعَ في حالة نموه الثوري تمثيلاً صادقًا، وعلى هذا فإن صدق التمثيل الفني للواقع يجب أن يرتبط بنوعية العمَّال، ويَدعم إيمانهم بروح الاشتراكية).




    [48] (أطلق هذا المصلطح في العِقْد الخامس من القرن العشرين على النظرية الفلسفية التي نادى بها "جون بول سارتر" في كتابه: "الوجود والعدم" (1943)، وأساسها أن الوجود المطلق - أو حالة الفراغ؛ كما يسميها "سارتر" - يَسبق الجوهر أو الماهيَّة أو الوجودَ الفعلي، والوجود الفعلي - في نظره - عبارةٌ عن خروج الفرد من حالة الخمول البدائي بوساطة الثورة النفسية الناتجة عن القلق واليأس، إلى جوٍّ من الحرية المطلقة، يستطيع فيه أن يُشكِّل حياته بمحض إرادته، متحمِّلاً المسؤولية الكاملة عن جميع تصرفاته، وأن يُضفي عليها العالمَ الذي يعيش فيه معنًى ومنطقًا)؛ "معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب"، ص: 430.




    [49] "معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب"، مجدي وهبة وكامل المهندس، ص: 207.




    [50] نفسه.




    [51] هنري برجسون (18 أكتوبر 1859 - 4 يناير 1941)، فيلسوف فرنسي. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1927.




    [52] ناقد فرنسي، توفي سنة 1976م.




    [53] مقال: "رسالة الأدب بين منهجين وحضارتين"، د. عدنان رضا النحوي، مجلة "المشكاة"، الملتقى، 1998، ص: 90.




    [54] العبَثية أو اللامعقول تيَّار أدبي نشأ في أوربا، يدعو إلى وجوب غياب الإله؛ لكي يوجد اللامعقول، المرادف للتَّافه والمضطرب. والعبَث: هو الموقف أو الأمر الذي يتنافى مع المعقول، وإدراكه قد يثير الضحك؛ "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، د. نجيب كيلاني، ص: 65، 68، و"معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب"، ص: 340.




    [55] "مدخل إلى الأدب الإسلامي"، د.نجيب الكيلاني، ص: 68.




    [56] مؤرخ بريطاني، توفي في 22 أكتوبر 1975.




    [57] "صفحات مضيئة من تراث الإسلام"، أنور الجندي، ص: 41.




    [58] "الإسلامية والمذاهب الأدبية" د. نجيب الكيلاني، ص: 17، 18.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •