مستقر الأرواح بعد الموت:


اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال كثيرة، والصحيح أنه لا تنافِيَ بين هذه الأقوال؛ لأن الأرواح متفاوتة في مستقرِّها في البرزخ أعظم تفاوت؛ فمنها في أعلى عليين، ومنها في حواصل طير، ومنها ما يكون محبوسًا على أبواب الجنة، ومنها ما يكون مقره باب الجنة، ومنها ما يكون محبوسًا في الأرض لا تعلو روحه إلى الملأ الأعلى؛ فإنها كانت روحًا سُفْلية كما كانت في الدنيا، ومنها أرواح تكون في تنُّور من نار مثل الزُّنَاة، ومنها تكون في نهر الدم تسبح، فليس للأرواح شقيّها وسَعِيدها مستقر واحد؛ فمَن تتبع السنن والآثار في هذا الباب وكان لديه فضل اعتناء، عَرَف أنه ليس هناك تعارض بين الأدلة...انظر الروح لابن القيم (116) بتصرف.


وقال الألوسي الحنفي:


"هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك، فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله - تعالى- في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دَين، ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم، وهذا مذهب أبي هريرة وعبدالله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما".

قال الألباني - رحمه الله - معلقًا على كلام الألوسي:


"وهو الصحيح من الأقوال الآتية؛ لأن غيره مما لا دليل عليه في السنة، أو في أثر صحيح تقوم به الحجة كما سترى، وهو الذي جزم به شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (24 / 365)، وقال: ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله، وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم" انظر: الآيات البينات في عدم سماع الأموات؛ للألوسي الحنفي، تحقيق الألباني (99).



قلتُ (أبو البراء): الحاصل أن مستقر الأرواح على تفصيل على النحو التالي:



أرواح الأنبياء في الملأ الأعلى؛ لما ثبت في حديث عائشة - رضي الله عنها - في وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول: ((بل الرفيق الأعلى)) . البخاري (3670)، ومسلم (2444).


• أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خُضْر تسرح في الجنة، كما في حديث ابن مسعود الذي مرَّ في الباب معنا.


أرواح المؤمنين تكون طيرًا تعلق في شجر الجنة، كما في حديث أم هانئ الذي مر في الباب معنا، وحديث عبدالرحمن بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما نسمة المسلم طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة)) . أحمد (15776)، وابن ماجه (4271)، وصححه الألباني في الصحيحة (995).


والفرق بين أرواح الشهداء وأرواح المؤمنين: أن أرواح الشهداء تنتقل في الجنة حيث شاءت، أما أرواح المؤمنين، فلا تنتقل.


• من المؤمنين مَن يكون محبوسًا على باب الجنة؛ مثل مَن مات وعليه دَين، ففي حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن صاحبَكم قد حبس على باب الجنة بدَينٍ كان عليه)) . أحمد (20157)، وصححه الألباني في الصحيحة (3415).



• مَن يكون محبوسًا في قبره؛ كصاحبِ الشَّمْلة التي غلَّها؛ أي: أخذها خيانة قبل أن توزع الغنيمة، ثم استشهد، فقال الصحابة: هنيئًا له الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلة التي غلَّها تشتعل عليه نارًا في قبره)) . البخاري (4234)، ومسلم (115).


• أرواح العصاة تختلفُ حسب نوع المعصية، ففي حديث سمرة بن جندب الطويل: ((أن أرواح الزناة والزواني تكون في تنُّور من نارٍ، وأن أرواح آكلي الرِّبا تسبح في نهر من الدم وتلقم بالحجارة، وأن أرواح الكذَّاب تعذب بكلُّوب من حديد يدخل في شدقِه حتى يبلغ قفاه، وأن أرواح الذي أوتِي القرآن فنام عن الصلاة المكتوبة يشرخ رأسه بصخرة)) .البخاري (7074).