قد يقول قائلٌ:

كيف تجمع بين ما ورد في فضل السؤال وأهميته، وما جاء في النهي عن السؤال؟ كما في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101-102].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كرِه لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال))[19].

وقول ابن عباس:


ما رأيت قومًا خيرًا من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاثَ عشْرة مسألةً حتى قُبض - صلى الله عليه وسلم - كلهن في القرآنِ: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ [البقرة: 222]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 217]، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ [البقرة: 220]، ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم. قال ابن القيم:


ومراد ابنِ عباس بقوله: ما سألوه إلا عن ثلاث عشْرة مسألةَ - المسائل التي حكاها اللهُ في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبيَّن لهم أحكامها بالسنَّة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأُغلوطات وعُضال المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممهم مقصورةً على تنفيذِ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمرٌ، سألوا عنه فأجابهم [20].

نقول - بفضل الله وعونه - لفكِّ هذا التعارضِ: علينا أن نعلمَ أن السؤالَ على أنواع:


1- السؤال الواجب وجوبًا عينيًّا [21]:


وهو السؤال عما يجهلُه من الأحكام الشرعية مما يجبُ على المكلَّف فعلُه، مثل: أحكام الصلاة والطهارة والصيام والزكاة، وغيرها من فروض الأعيانِ، ومثل: الاعتقاد في الله وملائكته ورسله وكتبِه...، وعليه يُحمل قوله - تعالى -: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
2- السؤال الواجب وجوبًا كفائيًّا[22]:


وهو السؤال للتوسُّع في معرفة الفقه، وما يتعلق بها لا للعمل فقط، ولكن لحفظِها على الأمة وبذْلها ونشرها، وعليه يُحمل قوله: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
وكان عمر بن الخطاب وغيرُه يقول عن ابن عباس: إنه فتَى الكُهول، له لسانٌ سَؤولٌ، وقلبٌ عَقولٌ. 3 - السؤال المندوب[23]:


وهو السؤال عن المندوبات والمستحبات من الأعمال؛ لمعرفتها والتعبُّدِ بها، والسؤالات التي فيها تأكيد للمكلَّفِ من صحة عباداته ومعاملاته. 4 - السؤال المحرَّم[24]:


وهو السؤال المنهيُّ عنه نهيَ تحريم، وهو المراد بالنصوص التي فيها النهي عن السؤال، مثل: أ- ما كان للسؤال عن الآيات والمعجزات على وجه التعنُّت والاستهزاء والعبث، كما قيل لعيسى - عليه السلام -: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾} [المائدة: 112]، وكما قيل لموسى - عليه السلام -: ﴿ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [النساء: 153].
ب- السؤال عما أخفاه الله عن خَلْقِه لحكمة يعلمها، مثل السؤال عن سرِّ القضاء والقدر، وأمور الغيب، والسؤال عن كيفية صفاتِ الله - عز وجل - ونحوه، ومنه القصة الشهيرةُ عندما جاء رجلٌ للإمام مالك وقال له: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، كيف استوى؟ فقال مالك: "الكيف غير معقولٍ، والاستواءُ غير مجهولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكونَ ضالاًّ"، وأمر به فأُخرج[25].
ج- السؤال عن الأُغلوطات، وقد فسَّرها الأوزاعيُّ بأنها شِدادُ المسائل وصعابها، وقال عيسى بن يونس: هي ما لا يُحتاج إليه من كيف وكيف[26].
وقال صاحب عون المعبود: إنها المسائل التي يُغالَط بها العلماءُ ليزِلُّوا فيها، فيهيج بذلك شرٌّ وفتنة، وهي لا تكون نافعةً في الدين، ولا تكاد تكون إلا فيما لا يقع[27].
5 - السؤال المكروه[28]:


مثل: أ- سؤال الرجل: أين أبي؟ وعليه يحمل قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101- 102]. ب- السؤال عما سكت عنه الشرعُ من الحلال والحرام زمنَ الوحي، وعليه يُحمل حديثُ: ((إن أعظمَ المسلمين جُرمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يحرَّم، فحُرِّم من أجل مسألتِه))[29].
ج- السؤال عما لم يقع ولا حاجة له فيه: قال ابن رجبٍ: ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادثِ قبل وقوعها، ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة: خرج عمرُ على الناس فقال: أحرِّج عليكم أن تسألونا عما لم يكن؛ فإنَّ لنا فيما كان شغُلاً[30] [31].

[19] البخاري (6473) ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة.

[20] إعلام الموقعين (1/64).

[21] واجب عيني: هو ما طلب الشارع فعلَه من كل المكلفين، ولا يسقط عنه بفعل البعض.

[22] واجب كفاية: هو ما طلب فعله من مجموع المكلَّفين، مثل: الجنائز، تغسيل وتكفين الميت والصلاة عليه ودفنه؛ أي: إذا فعله البعض سقط عن الكل.

[23] المندوب: لغة المدعو، واصطلاحًا: هو ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام كالرواتب. حكم المندوب: يثاب فاعله امتثالاً، ولا يعاقب تاركُه، ويسمى سنة ومسنونًا ومستحبًّا ونفلاً.
[24] الحرام: لغة الممنوع، واصطلاحًا: هو ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك كعقوق الوالدين. حكمه: يثاب تاركه امتثالاً، ويستحق العقاب فاعله، ويسمَّى محظورًا أو ممنوعًا أو معصيًة أو ذنبًا.
[25]أصول اعتقاد أهل السنة؛ للالكائي (3/389).

[26] جامع العلوم والحكم (1/247).

[27] عون المعبود (10/64).

[28] المكروه: لغة المبغض، واصطلاحًا: ما نهى عنه الشارع لا على وجه الإلزام بالترك كأكل البصل وغيره. حكم المكروه: يثاب تاركه امتثالاً، ولا يُعاقب فاعلُه.
[29] البخاري (7289)، ومسلم (2358)، من حديث سعد بن أبي وقاص.

[30]جامع العلوم والحكم (1/245).

[31] انظر الجامع لشرح الأربعين النووية؛ للشيخ محمد يسري - حفظه الله - (1/410 - 418).