هل مناظرة ابن سريج لداود ثابتة بالنقل الصحيح ؟
مناظرات ابن سريج لابن داود كثيرة مشهورة في كتب التراجم
ونقل الأئمة بعضا منها تارة بالإسناد وتارة بالإرسال كما في التبصرة للشيرازي والبحر للزركشي وحاشية العطار على شرح جمع الجوامع والتاريخ لابن عساكر والسير للذهبي والطبقات للسبكي والوافي للصفدي وغيرها كثير
ولابن سريج أكثر من كتاب في الرد عليه
كل ذلك يغني عن طلب الإسناد في أفرادها والله أعلم
إذا ثبتت هذه المناظرة لابن سريج ففيها أمر مهم جدا ، لعله أكثر أهمية من أصل مسألة المجاز .
وهي مسألة أن ( المجاز يصح إطلاق نفيه ) ، فقد ترى ابن سريج في المناظرة أطلق نفي المجاز ، وهو وارد في القرآن .
وقد رأيت الكرجي القصاب في ( نكت القرآن ) يطلق نفي المجاز كثيرا .
وقد ورد عن أئمة التفسير من السلف أيضا أشياء تشبه هذا ، كما ورد عن ابن عباس في قوله تعالى : {سنفرغ لكم أيها الثقلان}، وغيره.
فلعل من الأفضل أن نبحث عن مسألة أول من قال إن المجاز يصح نفيه .
قال شيخ الإسلام في الفتاوى 20 / 463 :
(( وهذا غلط وافقوا فيه أولئك لكن أولئك يقولون : هنا محذوف تقديره : واسأل أهل القرية . وأولئك يقولون : بل المراد واسأل الجدران ))
ما المراد بـ( أولئك ) الأولى ، وما المراد بـ( أولئك ) الثانية .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 466)
(( ولكن قد يقال: في الكلام محذوف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات ومن عادة العرب الحسنة في خطابها أنهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارًا كما أنهم يوردون الكلام بزيادة تكون مبالغة في تحقيق المعنى . فالأول كقوله : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } فمعلوم أن المراد فضرب فانفلق لكن لم يحتج إلى ذكر ذلك في اللفظ إذ كان قوله : قلنا : ( أن اضرب ) ؛ فانفلق : دليلا على أنه ضرب فانفلق . وكذلك قوله : { من آمن } تقديره بر من آمن أو صاحب من آمن . وكذلك قوله : { الحج أشهر } أي : أوقات الحج أشهر فالمعنى متفق عليه لكن الكلام في تسمية هذا مجازا. وقول القائل : نفس الحج ليس بأشهر ؛ إنما يتوجه لو كان هذا مدلول الكلام ؛ وليس كذلك بل مدلوله عند من تكلم به أو سمعه: أن أوقات الحج أشهر معلومات )) .
أولا: هذا الكلام من شيخ الإسلام يشير إلى أن النزاع لفظي.
ثانيا: ظاهر من هذا النص أن بعض الكلام يحتاج إلى تقدير وبعضه لا يحتاج إلى تقدير، وهذا واضح معقول في التقسيم ، خلافا لما ذكر شيخ الإسلام أن التقسيم ليس فيه شيء معقول .
ثالثا: مدلول الكلام عند كل من سمعه كما قال شيخ الإسلام، ولكن هذا المدلول تارة يطابق التقدير وتارة لا يطابق التقدير، وهذا الأمر لا ينكره شيخ الإسلام كما سبق ، فظهر وضوح التقسيم .
رابعا: لم يقل أحد من أصحاب المجاز إن المعنى المفهوم من العبارة ذلك، خلافا لما توحيه عبارة شيخ الإسلام ، ولكن النقاش في أن الكلام له لفظ وله مدلول، فتارة يكون المدلول مطابقا للفظ بغير احتياج لتقدير، وتارة يكون مخالفا للفظ ويحتاج إلى تقدير، وهذا واضح في التقسيم .
الحقيقة يصح نفيها باعتبار المجاز ، والمجاز يصح نفيه باعتبار الحقيقة .
هذا الكلام متفق عليه ، ولا إشكال فيه ، كما ذكر ابن القيم والشنقيطي وغيرهما.
ولكن الكلام في أنهم يقولون ( المجاز يصح إطلاق نفيه ) أي بغير قرينة .
وهذا الكلام أنكره شيخ الإسلام وبالغ في إنكاره ، وكلامه في هذا الموضع فيه إشكال عندي ؛ لأن شيخ الإسلام أصلا ذكر أن الكلام لا يوجد قط من غير قرينة تبين المراد منه ، فإذا كان هذا صحيحا ، فالذي ينفي المجاز في موضع من المواضع لا بد أن يقترن بكلامه ما يدل على مراده ، فإن اقترن به قرائن تدل على مراده فقد صار إذن من المقيد لا من المطلق ، فكيف يقال ( إن قولهم "المجاز يصح إطلاق نفيه" باطل )، وهذا الإطلاق غير متصور أصلا عند شيخ الإسلام؟!
هذا موضع مشكل عندي في كلام شيخ الإسلام.
وهناك موضع آخر مشكل عندي في كلامه
فقد قال رحمه الله:
(من الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن: {واسأل القرية} . قالوا المراد به أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لهم : لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب ؛ وأمثال هذه الأمور التي فيها الحال والمحال كلاهما داخل في الاسم . ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان وتارة على المحل وهو المكان وكذلك في النهر يقال: حفرت النهر وهو المحل . وجرى النهر وهو الماء . ووضعت الميزاب وهو: المحل . وجرى الميزاب وهو: الماء)
وقال في موضع آخر:
(وقوله : {أو جاء أحد منكم من الغائط}؟ فنقول: لفظ الغائط في القرآن يستعمل في معناه اللغوي وهو: المكان المطمئن من الأرض ؛ وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة لذلك وهو الغائط كما يسمى خلاء لقصد قاضي الحاجة الموضع الخالي ويسمى مرحاضا لأجل الرحض بالماء ونحو ذلك والمجيء من الغائط اسم لقضاء الحاجة ؛ لأن الإنسان في العادة إنما يجيء من الغائط إذا قضى حاجته فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها عند الإطلاق التغوط فقد يسمون ما يخرج من الإنسان غائطا تسمية للحال باسم محله كما في قوله: جرى الميزاب)
وهذا ظاهره التناقض
( منذر بن سعيد البلوطي ) توفي سنة 355
ذكر شيخ الإسلام أن له مصنفا في إنكار المجاز ، وهو متقدم على أبي إسحاق الإسفراييني .
فهل هو من أهل السنة ؟
كنت أستشكل هذا الموضع، ثم اتضح عندي؛ لأن شيخ الإسلام قد قرر في بعض المواضع موافقته على أن الاستعمال قد يتغير وقتا بعد وقت، فلا مانع عند شيخ الإسلام أن يكون أحد الاستعمالين سابقا على الآخر، فكونهم سموا الغائط للمكان أولا ثم لما يخرج لا إشكال فيه عند شيخ الإسلام.
ولكن شيخ الإسلام يرى أن هذا لا يدل على التقسيم ، وهذا صحيح ؛ لأن هذا وارد على الحقائق أيضا ، فلم ينكر أحد تأخر بعض الحقائق عن بعض في الوضع .
وقد ناقشتُ طرفا من هذه المسألة في مبحث الاشتقاق ، وبينت أن أهل العلم في قولهم ( كذا مأخوذ من كذا ) لا يلزم أن يعنوا به التأخر الزمني.
لا يظهر لي فرق بين كلام ( الإمام أحمد ) وبين كلام ( البخاري وعثمان الدارمي ) ، فأرجو ممن عنده فرق بينهما أن يوضحه .
أنا فهمت من كلامك أنك تستشكل هذا الكلام مع نفيه للمجاز، لا مطلق الاستشكال.
فإن كان كما فهمتُ، فلا إشكال كما سبق.
وإن كنت تعني مطلق الاستشكال فما علاقته بالموضوع الذي نحن فيه؟
أولئك الأولى هم القائلون بمجاز الحذف فقوله: {واسأل القرية} معناه عندهم (واسأل أهل القرية) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مكانه
وأولئك الثانية هم القائلون بمجاز تسمية الحال باسم محله فقوله: {واسأل القرية} معناه عندهم (واسأل الجدران) ولكن المقصود الناس بدلالة السؤال
وقد قال شيخ الإسلام بالأمرين في مواضع أخرى:
أما مجاز الحذف ففي قوله:
(وقوله : {الحج أشهر معلومات} والأشهر ليست هي الحج ؟ فيقال : معلوم أن أوقات الحج أشهر معلومات ليس المراد أن نفس الأفعال هي الزمان ولا يفهم هذا أحد من اللفظ ولكن قد يقال: في الكلام محذوف تقديره: (وقت الحج أشهر معلومات) ومن عادة العرب الحسنة في خطابها أنهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارًا)
وأما مجاز تسمية الحال باسم محله ففي قوله:
(وقوله : {أو جاء أحد منكم من الغائط} فنقول: لفظ الغائط في القرآن يستعمل في معناه اللغوي وهو : المكان المطمئن من الأرض ؛ وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة لذلك وهو الغائط كما يسمى خلاء لقصد قاضي الحاجة الموضع الخالي ويسمى مرحاضا لأجل الرحض بالماء ونحو ذلك والمجيء من الغائط اسم لقضاء الحاجة ؛ لأن الإنسان في العادة إنما يجيء من الغائط إذا قضى حاجته فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها عند الإطلاق التغوط فقد يسمون ما يخرج من الإنسان غائطا تسمية للحال باسم محله)
والفارق الوحيد بين كلام شيخ الإسلام وكلام مثبتة المجاز أنه لا يسميه مجازا
أليس هذا تناقضا؟
ألا ترى في ذلك استشكالا؟
وشيخ الإسلام ينفي في مواضع كثيرة أن يكون الخلاف مع مثبتي المجاز لفظيا مع انه يقول هنا:
(وكذلك قوله: {الحج أشهر} أي: أوقات الحج أشهر. فالمعنى متفق عليه لكن الكلام في تسمية هذا مجازا)
ويقول أيضا:
(وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} فنقول: لفظ الغائط في القرآن يستعمل في معناه اللغوي وهو: المكان المطمئن من الأرض؛ ... والمجيء من الغائط اسم لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان في العادة إنما يجيء من الغائط إذا قضى حاجته فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها عند الإطلاق التغوط فقد يسمون ما يخرج من الإنسان غائطا تسمية للحال باسم محله) فسماه: حقيقة عرفية وسماه غيره: مجازا.
فإن لم يكن هذا خلافا لفظيا فماذا نسميه؟
وما الفارق بين أن أقول:
{الحج أشهر معلومات} تقديره (وقت الحج أشهر معلومات) كما قال شيخ الإسلام
وبين أن أقول:
{واسأل القرية} تقديره (واسأل أهل القرية) كما قال أهل المجاز
وما الفارق بين أن أقول:
{أو جاء أحد منكم من الغائط} (الغائط) مستعمل في معناه اللغوي؛ وهو: المكان المطمئن من الأرض؛ وأطلق على ما يخرج من الإنسان (غائطا) تسمية للحال باسم محله. كما قال شيخ الإسلام
وبين أن أقول:
{واسأل القرية} (القرية) مستعملة في معناها اللغوي؛ وهو: المكان والجدران؛ وأطلق على من يسكنون (قرية) تسمية للحال باسم محله. كما قال أهل المجاز
هل من مجيب إجابة شافية؟
الإجابة التي تظهر بادي الرأي أن هذا خلاف في اللفظ فقط ، فهؤلاء يسمونه مجازا ، وشيخ الإسلام يسميه حقيقة .
وهؤلاء يقولون : هذا خلاف الوضع الأول ، وهو يقول : لا يوجد وضع أول أصلا .
وهذا أيضا خلاف لفظي .
ولكن يعكر على هذا ما صرح به شيخ الإسلام في مواضع أن الخلاف غير لفظي .
ولكن يمكن أن يقال معنى قوله ( الخلاف غير لفظي ) أن هذا القول لما ظهر له مفاسد على أيدي الأشعرية صار خلافا حقيقيا من باب المآل لا من باب حقيقة الحال .