بسم الله وبعد :
فهذا ملخص الكلام على حديث :" المرأة التي لا ترد يد لامس " فاقول :
ورد هذا الحديث متصلا وورد مرسلا ومضطربا متنا وسندا ،
فرواه الأوثق – وهم معمر ويزيد بن هارون وأبو عمر الضرير - برواية الثقات فجعلوه مرسلا، وإنما وصله عبد الكريم وهو رجل ضعيف، ومع ذلك فقد اضطرب أيضا ، واختلطت هذه الروايات على بعضهم فأدمج بين ما رواه الثقات وغيرهم،
وهكذا متنه فمضطرب أيضا، فقد ورد بلفظ :" أمسكها "، أي للزواج،
وورد بلفظ " استمتع بها "، للمتعة وقضاء الحاجة إلى حين، وربما لزواج المتعة المنسوخ .
وإليكم البيان :
فأما الرواية المتصلة :
1/ فقد قال الخرائطي في اعتلال القلوب (70) حدثنا العباس بن عبد الله الترقفي حدثنا محمد بن كثير المصيصي حدثنا حماد بن سلمة عن هارون بن رئاب وحبيب بن الشهيد عن عبيد بن عمير عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله , إن لي امرأة وإني أحبها , وإنها لا تمنع يد لامس، قال: «طلقها» . قال: إني لا أصبر عنها قال: «فأمسكها إذا»، المصيصي فيه ضعف، ووهم في ذكر حبيب وفي ذكر عبيد بن عمير ، وإنما هو إبنه عبد الله :
واختلف فيه على محمد بن كثير أيضا :
فرواه إسماعيل بن إسحاق ثنا محمد بن كثير أنبأ سفيان بن سعيد الثوري عن عبد الكريم قال: حدثني أبو الزبير عن مولى لبني هاشم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن امرأتي لا تمنع يد لامس " قال: " طلقها " قال: إنها تعجبني قال: " تمتع بها ".
وكذلك اختلف في وصل هذا الحديث على حماد، فوصله المصيصي والنضر عن حماد ، واختلفا في إسناده أيضا، في ذكر حبيب وعبد الله بن عبيد أو عبيد نفسه:
2/ فقال أبو عبد الرحمن النسائي 3465 - أخبرنا إسحق بن إبراهيم: حدثنا النضر بن شميل حدثنا حماد بن سلمة: أنبأنا هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن تحتي امرأة لا ترد يد لامس، قال: «طلقها» قال: إني لا أصبر عنها، قال: «فأمسكها»
قال أبو عبد الرحمن النسائي : «هذا خطأ والصواب مرسل».
هكذا رفعه المصيصي والنضر بن شميل عن حماد بن سلمة عن هارون متصلا واختلفا ووهِما فيه ، وخالفهما الأوثق يزيد بن هارون وغيره فرووه عن حماد فميّزوا بين روايتين ، وهو الصواب لحفظهم وكثرتهم وتمييزهم بين الرواة :
فجعلوا الرواية المرسلة عن حماد هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير من مرسل عبد الله بن عبيد بلا ابن عباس كما رواه سفيان أيضا :
وإنما ابن عباس مذكور في طريق حماد عن عبد الكريم وهو ضعيف وقد اضطرب في حديثه جدا كما سيأتي :
فورد عنه عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس كما سنبين في :
ذكر الرواية المتصلة والمميزة :
1/ فقال النسائي 3229 وفي الكبرى أخبرنا محمد بن إسمعيل بن إبراهيم حدثنا يزيد قال: حدثنا حماد بن سلمة وغيره عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير، وعبد الكريم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس، - عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه -، قالا: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندي امرأة، هي من أحب الناس إلي، وهي لا تمنع يد لامس، قال: «طلقها»، قال: لا أصبر عنها، قال: «استمتع بها» قال أبو عبد الرحمن النسائي: «هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم»
توبع يزيد من طرف معمر وحفص بن عمر الضرير وهما ثقتان أيضا، إضافة إلى متابعة سفيان :
2/ فقال العقيلي ثنا أبو عمر الضرير ثنا حماد بن سلمة ثنا عبد الكريم بن أبي المخارق وهارون بن رئاب الأسدي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي قال حماد: قال أحدهما عن ابن عباس رضي الله عنه: إن رجلا قال: " يا رسول الله إن عندي بنت عم لي جميلة، وأنها لا ترد يد لامس قال: " طلقها " قال: لا أصبر عنها قال: " فأمسكها إذا "،
فتبين بهذا أن الرواية المتصلة إنما هي من طريق عبد الكريم وهو ضعيف، وقد اضطرب أيضا كما سيأتي من رواية محمد بن كثير أنبأ سفيان بن سعيد الثوري عن عبد الكريم قال: حدثني أبو الزبير عن مولى لبني هاشم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن امرأتي لا تمنع يد لامس " قال: " طلقها " قال: إنها تعجبني قال: " تمتع بها "
ورواه عبيد الله بن عمرو وموسى بن أعين عن عبدالكريم عن ابي الزبير عن جابر به، خرجه الطبراني في الأوسط (5/73) .
ونرجع الآن إلى الطرق الأصح بمتابعة يزيد والضرير :
3/ فقال عبد الرزاق 12365 عن معمر عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال رجل: يا رسول الله، إن امرأتي ذات ميسم، وإنها والله ما تمنع يد لامس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طلقها» فقال: يا رسول الله، لو أني أفارقها ثلاثا؟ قال: «فاستمتع بأهلك»
فبان بهذا بأن أصح طرقه ما رواه يزيد ومعمر وأبو عمر الضرير عن حماد بن سلمة وغيره عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير، وعبد الكريم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس، - عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه -، قالا: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فالرواية المتصلة بالثقات هي المرسلة ، ورواية عبد الكريم الضعيف هي الموصولة، وقد اضطرب فيها مع ضعفه ، فمرة يجعلها عن ابن عباس ومرة عن جابر ومرة عن مولى .
4/ وقد روى هذا الحديث سفيان بن عيينة عن هارون مرسلا كما رواه يزيد عن حماد وغيره عن هارون :
فقال الشافعي أخبرنا سفيان عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي امرأة لا ترد يد لامس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فطلقها» ، قال: إني أحبها، قال: «فأمسكها إذن» .
وهكذا بان بأن الصواب فيه ما رواه يزيد وسفيان ومعمر والضرير كلهم مرسلا، وإنما وصله عبد الكريم واختلط ذلك على النضر فأدمج بينهما،
وعبد الكريم هذا سيء الحفظ وقد اضطرب أيضا، والعجب من بعضهم ممن جعل هذه الاضطرابات متابعات يقوي بعضها بعضا، وغفل عن هذه العلل ومرجع الحديث إلى طريق واحد أو طريقين تنزلا فقط :
فقد رواه من سبق عن ابن عمير ابن عباس، ورواه غيره عن أبي الزبير عن جابر، وقيل عن رجل وقيل عن هشام، وقيل مرسل :
فرواه إسماعيل بن إسحاق ثنا محمد بن كثير أنبأ سفيان بن سعيد الثوري عن عبد الكريم قال: حدثني أبو الزبير عن مولى لبني هاشم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن امرأتي لا تمنع يد لامس " قال: " طلقها " قال: إنها تعجبني قال: " تمتع بها "
وهذا المولى مجهول، والطريق إليه مضطرب ، وأبو الزبير ممن يدلس .
وقد قيل هذه المجهول هو هشام :
روى ذلك محمد بن أيوب حدثنا سفيان الثوري عن عبد الكريم عن أبي الزبير عن هشام مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :..".
ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن رجل عن مولى لبني هاشم: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن فارقها. قال: إنها تعجبني. قال: «فتمتع بها».
بينما قال أحمد بن منيع: ثنا كثير بن هشام ثنا فرات بن سلمان، عن عبدالكريم بن مالك عن ابن الزبير أو أبي الزبير قال:" جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم مرسلا .
. وقال ابن عدي الحافظ نا الحسن بن الفرج نا عمرو بن خالد الحراني نا عبيد الله – هو ابن عمرو - عن عبد الكريم هو الجزري عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي لا تدفع يد لامس، قال: «طلقها»، قال: إني أحبها وهي جميلة. قال: «استمتع بها».
2/ قال البيهقي في الكبرى (7/250) :" وهكذا روي عن معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما :
ثم خرجه عن ابن عدي الحافظ قال في الكامل في الضعفاء –ترجمة معقل -: أنبأ أبو خليفة ثنا محمد بن الصلت أبو يعلى التوزي ثنا حفص بن غياث عن معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاءه فقال: " إن لي امرأة لا تمنع يد لامس " قال: " فارقها " قال: إني لا أصبر عنها قال: " فاستمتع بها "، قال البيهقي:" وكذلك رواه إبراهيم بن أبي الوزير عن حفص بن غياث".
ومعقل هذا مختلف في توثيقه، وقد عد ابن عدي هذا الحديث مما أنكر على معقل ، والصواب أنه عن عبد الكريم .
فقد قال عنه ابن أبي حاتم: قيل لأبي : أيهما أشبه ؟ قال : الثوري أحفظ "، يعني رجوعه إلى هشام .
وقال السيوطي في اللآلئ:" وسئل عنه أحمد فيما حكاه الخلال فقال: ليس له أصل ولا يثبت عن النبي ".
وفي الحديث علة قادحة وهي اختلاط وتدليس حفص بن غياث، فربما دلسه عن بعض الضعفاء ، ممن يرجع حديثهم إلى طريق عبد الكريم المذكور ، أو انه رواه بعد الاختلاط ، فرجع الشاهد إلى ما سبق، وله شاهد ثالث موصول، وفي الحقيقة هو الأقوى إن سلِم :
3/ فقال النسائي (3464) وأبو داود (2049) كتب إلي حسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال: «غربها» قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال: «فاستمتع بها»
قال البزار: لا نعلمه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إلا بهذا الإسناد".
وقال الدارقطني في (الأفراد) : تفرد به الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة، وتفرد به الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد ".
وهذا الحديث حسنه ابن حجر ، وقال :" سئل عنه أحمد فيما حكاه الخلال فقال: ليس له أصل ولا ثبت عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ".
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ، وضعفه النسائي .
وإنما لم يعتدوا بهذا الحديث مع شاهده وصدق رواته لأن الحسين بن واقد مدلس وربما دلسه أيضا عن ضعيف، والحديث مشهور بالطرق السابقة وهو يرجع إليها .
وأما الكلام عن متنه فقد مر، وحمْله على جواز الزواج بالزانية فباطل مخالف للقرآن وللسنن، وللنهي عن الدياثة وأنه لا يدخل الجنة ديوث كما رجح شيخ الإسلام :
والصواب في الباب من السنة والقرآن ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكان بمكة بغي، يقال لها: عناق، وكانت صديقة له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أنكح عناق؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد شيئا، فنزلت: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} [النور: 3] فدعاني، فقرأها علي، وقال لي: «لا تنكحها».
وقد قال ابن قتيبة: حدثنا محمد بن يزيد المستملي قال: سمعت الأَصْمَعيّ يقول:" قولُ الرجلِ للنّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: إن لي امرأة لا تَمْنَعُ يدَ لامسٍ، ليسَ يعني الفُجُورَ، إنَّما يَعنِي السَّخَاءَ".
وكذلك قال الخرائطي :" زعم قوم من أهل العلم أنه أراد بقوله «لا تمنع يد لامس» الكناية عن الجماع , أي لا تمنع أحدا أرادها لريبة , واحتجوا بقوله جل ثناؤه: {أو لامستم النساء} [النساء: 43] فقالوا: ألا تراه جعل الجماع لمسا , إنما قال: لا تمنع يد لامس , وقد قال الله تعالى {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم} [الأنعام: 7] فلا يجوز لقائل يقول أن لهذا معنى غير اليد المعروف , وإنما معنى الحديث: أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي , وأنها لا تمنع أحدا سألها من متاع بيته شيئا , وهذا لفظ مستغن عن الكناية , إنما تمنع اليد نفسها , فكان الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت تحبها ولا تطيق الصبر عنها , فاحتمل هذا الفعل منها. وكيف يتأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمره بإمساك امرأة لا تمنع أحدا أرادها لريبة , فتلحق به من ليس منه , يرث ماله ويطلع على عورات نسائه , وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في ذم الزنا ما تقدم ذكره ".
وعليه فهذا الحديث لا يتحدث عن الرضا بالزانية والدياثة لأن هذا باطل شرعا وعقلا وحسا ، وحتى لو حمل عليه لكان منسوخا بالنهي عن الدياثة والزواج بالبغايا، وأنه كان يُستمتع بهن في نكاح المتعة ثم نسخ ذلك، " فاستمتع بها ".
وأما أن يُحمل على الرضا بالبغايا فحاشا الشرع من ذلك وألف كلا .
والأولى أن يقال بأنه يتحدث عن مصافحتها للرجال ، أو أنها لا تمسك يدها من شدة معروفها وإنفاقها من مال زوجها بلا إذنه.
والحاصل أنه يحتاج هذا الحديث إلى طريق آخر يشده، والله تعالى أعلى وأعلم .