وبهذا تجتمع النصوص،
فما كان من الأنبياء
- صلوات الله وسلامه عليهم -
فهو مما اجتمع فيه نوعي البركة،
وما كان من غيرهم
فهم مما بورك فيهم بركة عمل وعلم واتباع،
ولذا تجد أثر هذه البركة لا يتعدى
إلا بالأعمال،
لا بالذات
ولا بأجزائها.
وبهذا تجتمع النصوص،
فما كان من الأنبياء
- صلوات الله وسلامه عليهم -
فهو مما اجتمع فيه نوعي البركة،
وما كان من غيرهم
فهم مما بورك فيهم بركة عمل وعلم واتباع،
ولذا تجد أثر هذه البركة لا يتعدى
إلا بالأعمال،
لا بالذات
ولا بأجزائها.
ولذا قال أُسيد بن حُضير
في سبب مشروعية التيمم:
( لقد بارك الله للناس فيكم
يا آل أبي بكر )
أخرجه البخاري
في "التفسير" من صحيحه.
واللفظ المروي عند الشيخين
البخاري ومسلم:
(ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر)
ومعنى اللفظين واحد،
ومعلوم أنه ما كان أسيد ولا غيره
يبتغي من أبي بكر أو آله
بركة ذاتٍ
كما كانوا يفعلونه مع النبي
صلى الله عليه وسلم،
من التبرك بشعره ونحوه،
وإنما هي بركة عمل
هو الإيمان والتصديق
والنصرة والاتباع.
ومن ذلك ما قالته عائشة
- رضي الله عنها -
لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم
جويرية بنت الحارث
قالت:
( فما رأيت امرأة
كانت أعظم بركة على قومها منها )
أخرجه أحمد في "المسند"
(6/277)،
وأبو داود في "السنن"
بإسناد جيد.
فهذه بركة عمل
لتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها،
فكان أن سبَّب ذلك
عتق كثير من قومها.
التبرك بالنبي محمدٍ
صلى الله عليه وسلم:
إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم
مبارك الذات،
مبارك الصفات،
مبارك الأفعال،
وهذه البركة فيه صلى الله عليه وسلم
متحققة في ذاته وصفاته وأفعاله.
فقد ثبت عن بعض صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنهم كانوا يتبركون بأشياء منفصلة عن بدنه كالشعر،
والوضوء، والعرق وغير ذلك،
مما جاءت به الأحاديث الصحيحة،
في الصحيحين وغيرهما.
فله صلى الله عليه وسلم
من أنواع البركة
أعلى ما يهبه الله بشراً من رسله،
وأجزاؤه صلى الله عليه وسلم تتعدى بركتها،
ويجوز التبرك بها،
كما فعلت جماعة من الصحابة.
وأما آثاره المكانية
كمكانٍ سار فيه،
أو بقعةٍ صلى فيها،
أو أرض نزل بها
فلم يُعرف دليل شرعي يومئ أو يشير
إلى أن بركة بدن الرسول صلى الله عليه وسلم
قد تعدت إلى هذا المكان،
فيكون مباركاً يُشرع التبرك به،
ولذا لم يكن يفعل هذا
صحابته في حياته
ولا بعد مماته.
فما سار فيه رسول الله
أو نزل فيه
فلا يجوز التبرك به؛
لأن هذا وسيلة إلى تعظيم البقاع
التي لم يُشرع لنا تعظيمها،
ووسيلة من وسائل الشرك ،
وما تتبع قوم آثار أنبيائهم
إلا ضلوا وهلكوا.
قال المعرور بن سويد الأسدي؛
خرجت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
من مكة إلى المدينة،
فلما أصبحنا صلى بنا الغداة،
ثم رأى الناس يذهبون مذهباً،
فقال: أين يذهب هؤلاء؟
قيل: يا أمير المؤمنين!
مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
هم يأتون يصلون فيه،
فقال:
إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا،
يتبعون آثار أنبيائهم،
فيتخذونها كنائس وبيعاً،
من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل،
ومن لا فليمض،
ولا يتعمّدها.
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"،
وابن أبي شيبة في "المصنف"
(2/376)،
ومحدث الأندلس محمد بن وضاح القرطبي
في "البدع والنهي عنها"
(ص41)،
بإسناد صحيح.
فهذا قول الخليفة الراشد،
الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( إن الله - عز وجل - جعل الحق
على قلب عمر ولسانه )
أخرجه أحمد
(2/95)
عن ابن عمر بإسناد صحيح،
ورواه من طريق أخرى عن ابن عمر
(2/53)،
ورواه أحمد
(5/145)،
وأبو داود
(رقم2962) عن أبي ذر،
ورواه أحمد
(2/401) عن أبي هريرة
ورواه جمع عن هؤلاء
وغيرهم من الصحابة.
ولا شك أن قول عمر السالف
في النهي عن تتبع الآثار
من الحق الذي جعله الله على لسان عمر رضي الله عنه.
قال ابن وضاح رحمه الله
(ص43):
( وكان مالك بن أنس وغيره
من علماء المدينة
يكرهون إتيان تلك المساجد،
وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم،
ما عدا قباء وأحداً ) (1).
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
(1):وفي نقل الاعتصام عنه: ما عدا قباء وحده.
قال ابن وضاح:
( فعليكم بالاتباع
لأئمة الهدى المعروفين،
فقد قال بعض من مضى:
كم من أمرٍ هو اليوم
معروف عند كثير من الناس
كان منكراً عند من مضى،
ومتحبب إليه بما يبغضه عليه،
ومتقربٍ إليه بما يبعده منه،
وكل بدعة عليها زينة وبهجة ) اهـ.
فانظر إلى كلامه المتين:
وكانت وفاة ابن وضاح سنة 286 هـ.
المقصود من هذا
أن السلف سلف الأئمة
كانوا ينكرون التبرك بالآثار المكانية،
وينكرون تحريها
والتعلق بها
رجاء بركتها،
ولم يخالف في ذلك إلا ابن عمر
– رضي الله عنهما -،
فقد كان يتتبع الأماكن التي صلى فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيصلي حيث صلى،
ونحو ذلك.
وما نُقل نقلٌ مصدَّق
عن غير ابن عمر من الصحابة
أنه كان يفعل مثل ما فعل ابن عمر
في الآثار المكانية.
وابن عمر ما كان يطلب بركة المكان،
ولكنه يطلب تمام الاقتداء
بكل ما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في جميع أحواله،
حتى إنه أراد الصلاة في كل مكانٍ صلى فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم،
وكان يتتبع ذلك ويعلمه،
وما كان فعله - فيما يظهر -
قصداً للتبرك بالبقعة
كما يفهمه المتأخرون،
وإنما قصد تمام الاقتداء،
ولم يفعله غيره من صحابة المصطفى
صلى الله عليه وسلم،
ولم يوافقوه،
بل إن أباه
نهى الناس عن تتبع الآثار المكانية،
وقوله مقدَّم على رأي ابنه
عند الخلاف باتفاق،
وهو خلاف لا يقوم
في مقابلة اتفاق عمل الصحابة
على ترك ما فعله ابن عمر
- رضي الله عنه-،
ولا شك أن الصواب، والحق
مع عمر
- رضي الله عنه -
وبقية الصحابة،
وهو الحري بالاتباع ،
الفاصل عند النزاع ،
والله أعلم.
التبرك بذوات الصالحين:
قد تقدم أن بركة الذوات
لا تكون إلا لمن نصَّ الله على إعطائه البركة
كالأنبياء والمرسلين
وأما غيرهم من عباد الله الصالحين
فبركتهم بركة عملٍ،
أي: ناشئة عن علمهم وعملهم واتباعهم
لا عن ذواتهم،
ومن بركات الصالحين:
دعاؤهم الناس إلى الخير
ودعاؤهم لهم
ونفعهم الخلق بالإحسان إليهم
بنيةٍ صالحة
ونحو هذا.
ومن آثار بركات أعمالهم
ما يجلب الله من الخير بسببهم
ويدفع من النقمة والعذاب العام
ببركة إصلاحهم،
كما قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }
[ هود: 117 ].
وأما أن يعتقد أن ذواتهم مباركة،
فيتمسح بهم،
ويشرب سؤرهم
وتقبل أيديهم للبركة دائماً
ونحو ذلك،
فهو ممنوع في غير الأنبياء
لأوجه:
الأول:
عدم مقاربة أحدٍ للنبي صلى الله عليه وسلم
فكيف بالمساواة في البركة والفضل ؟!
الثاني:
أنه لم يرد دليلٌ شرعي
يدل على أن غير النبي صلى الله عليه وسلم
مثلُه في التبرك بأجزاء ذاته،
فهو خاص به
كغيره من خصائصه.
الثالث:
ما قاله الشاطبي - رحمه الله -
حين تعرض لقياس غير النبي عليه بجامع الولاية،
قال في كتاب "الاعتصام"
(2/6-7):
( إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه،
مشكل في تنزيله،
وهو أن الصحابة رضي الله عنهم
لم يقع من أحدٍ منهم شيء من ذلك
بالنسبة إلى من خلفه،
إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة
أفضل من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -
فهو كان خليفته،
ولم يُفعل به شيء من ذلك،
ولا عمر رضي الله عنه،
وهو كان أفضل الأمة بعده،
ثم كذلك عثمان ثم علي
ثم سائر الصحابة،
الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة،
ثم لم يثبت لواحدٍ منهم
من طريق صحيح معروف
أن متبركاً تبرك به
على أحد تلك الوجوه أو نحوها (1)،
بل اقتصروا فيهم
على الاقتداء بالأفعال والأقوال
والسير
التي اتبعوا فيها النبي
صلى الله عليه وسلم،
فهو إذاً
إجماع منهم
على ترك تلك الأشياء ) اهـ.
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
(1):يعني التبرك بالعرق والشعر والوضوء ونحو ذلك.