أيها الولد..!!
إني أنصحك بثمانية أشياء، اقبلها مني لئلا يكون علمك خصمك يوم القيامة، تعمل منها أربعة، وتدع منها أربعة:
أما اللواتي تدع:
فأحدها: ألا تناظر أحدا في مسألة ما استطعت لأن فيها آفات كثيرة، فإثمها أكبر من نفعها، إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها.
نعم لو وقع مسألة بينك وبين شخص أو أقوام، وكانت إرادتك فيها أن تظهر الحق ولا يضيع، جاز البحث، لكن لتلك الإرادة علامتان:
إحداهما: ألا تفرّق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك.
والثانية: أن يكون البحث في الخلاء أحبّ إليك من أن يكون في الملأ
والثاني مما تدع: وهو أن تحذر وتحترز من أن تكون واعظا ومذكرا؛ لأن آفته كثيرة إلا ان تعمل بما تقول أولا، ثم تعظ به الناس، فتفكر فيما قيل لعيسى عليه السلام: يا ابن مريم عظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستح من ربك.
وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز عن خصلتين:
الأولى: عن التكلف في الكلام بالعبارات والإشارات والطامات والأبيات والأشعار؛ لأن الله تعالى يبغض المتكلفين، والمتكلف المتجاوز عن الحد، يدل على خراب الباطن وغفلة القلب.
ومعنى التذكير: أن يذكر العبد نار الآخرة، وتقصير نفسه في خدمة الخالق ويتفكر في عمره الماضي الذي أفناه فيما لا يعنيه ويتفكر فيما بين يديه من العقبات من عدم سلامة الإيمان في الخاتمة، وكيفية حاله في قبض ملك الموت، وهل يقدر على جواب منكر ونكير؟
ويهتم بحاله في القيامة ومواقفها، وهل يعبلا عن الصراط سالما أم يقع في الهاوية؟
ويستمر ذكر هذه الأشياء في قلبه، فيزعجه عن قراره، فغليان هذه النيران، ونوحة هذه المصائب يسمّى تذكيرا، وإعلام الخلق واطلاعهم على هذه الأشياء، وتنبيههم على تقصيرهم وتفريطهم، وتبصيرهم بعيوب أنفسهم لتمسّ حرارة هذه النيران أهل المجلس، وتجزعهم تلك المصائب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة، ويتحسّروا على الأيام الخالية في غير طاعة لله تعالى.
هذه الجملة على هذا الطريق اسمى وعظا، كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد، وكان هو وأهله فيها فتقول: الحذر الحذر فروا من السيل!! وهل يشتهي قلبك في هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار خرك بتكلف العبارات، والنكت والإشارات؟ فلا يشتهي البتة؛ فكذلك حال الواعظ فينبغي أن يجتنبها.
الخصلة الثانية: ألا تكون همّتك في وعظك أن ينفر الخلق في مجلسك ويظهروا الوجد، ويشقوا الثياب، ليقال: نعم المجلس هذا؛ لأن كله ميل للدنيا والرياء، وهو يتولد من الغفلة، بل ينبغي أن يكون عزمك وهمّتك أن تدعو الناس من الدنيا الى الآخرة، ومن المعصية الى الطاعة، ومن الحرص الى الزهد، ومن البخل الى السخاء، ومن الغرور الى التقوى، وتحبب إليهم الآخرة، وتبغّض إليهم الدنيا، وتعلمهم علم العبادة والزهد؛ لأن الغالب على طباعهم الزيغ عن نهج الشرع، والسعي فيما لا يرضى الله تعالى به، والاشتغال بالأخلاق الرّدية، فألق في قلوبهم الرعب، وروّعهم، وحذرهم عما يساقبلون من المخاوف؛ لعل صفات باطنهم تتغير، ومعاملة ظاهرهم تتبدل، ويظهروا الحرص والرغبة في الطاعة والرجوع عن المعصية، وهذا طريق الوعظ والنصيحة، وكل وعظ لا يكون هكذا فهو وبال على من قال ويسمع، بل قيل: إنه غول وشيطان، يذهب بالخلق عن الطريق ويهلكهم، فيجب عليهم أن يفروا منه؛ لأن ما يفسد هذا القائل من دينهم، لا يستطيع بمثله الشيطان، ومن كان له يد وقدرة يجب عليه أن ينزله عن منابر المسلمين ويمنعه عما باشره، فإنه من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والثالث مما تدع: أنه لا تخالط الأمرء والسلاطين ولا ترهم، لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة، ولو ابتليت بها دع عنك مدحهم وثناءهم، لأن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم، ومن دعا لطول بقائهم فقد أحبّ أن يعصى الله في أرضه.
والرابع مما تدع: ألا تقبل شيئا من عطاء الأمراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلال، لأن الطمع منهم يفسد الدين، لأنه يتولد من المداهنة، ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم، وهذا كله فساد في الدين، وأقلّ مضرّته أنك إذا قبلت عطاياهم، وانتفعت من دنياهم أحببتهم، ومن أحبّ أحدا يحب طول عمره، وبقاءه بالضرورة، وفي محبة بقاء الظالم إرادة في الظلم على عباد الله تعالى، وإرادة خراب العالم، فأي شيء يكون أضر من هذا على الدين والعاقبة.
وإياك وإياك أن تخدع باستهواء الشياطين أو قول بعض الناس لك: بأن الأفضل والأولى أن تأخذ منهم الدينار والدهم، وتفرّقها بين الفقراء والمساكين؛ فإنهم ينفقون على الفسق والمعصية، وإنفاقك على ضعفاء الناس خير من إنفاقهم؛ فإن اللعين قد قطع أعناق كثير من الناس بهذه الوسوسة وآفته كثيرة، ذكرناها في إحياء العلوم فاطلبه منها.
وأما الأربعة التي ينبغي لك أن تفعلها:
الأول: أن تجعل معاملتك مع الله تعالى، بحيث لو عامل بها عبدك معك ترضى بها منه، ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب، والذي لا ترضى به لنفسك من عبدك المجازيّ فلا ترضى أيضا لله تعالى وهو سيدك الحقيقي.
والثاني: كلما عملت بالناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم؛ لأنه لا يكمل إيمان عبد حتى يحبّ لسائر الناس ما يحبّ لنفسه.
والثالث: إذا قرأت العلم أو طالعته، ينبغي أن يكون علمك علما يصلح قلبك ويزكي نفسك، كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع، فبالضرورة لا تشتغل فيها بعلم الفقه والخلاف والأصول والكلام وأمثالها؛ لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تغنيك، بل تشتغل بمراقبة القلب، ومعرفة صفات النفس، والإعراض عن علائق الدنيا، وتزكي نفسك عن الأخلاق الذميمة وتشتغل بمحبة الله تعالى وعبادته، والاتصاف بالأوصاف الحسنة، ولا يمر على عبد يوم وليلة إلا ويمكن أن يكون موته فيه.
أيها الولد..!!
اسمع مني كلاما آخر، وتفكر فيه حتى تجد فيه خلاصا: لو أنّك أخبرت أن السلطان بعد أسبوع يجيئك زائرا. أعلم أنك في تلك المدة لا تشتغل إلا بإصلاح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب وابدن، والدّار والفرش وغيرها.
والآن تفكر إلى ما أشرت به فإنك فهم، والكلام الفرد يكفي الكيّس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا ينظر الى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر الى قلوبكم ونياتكم" رواه مسلم.
وإن أردت علم أحوال القلب فانظر الى الإحياء وغيره من مصنفاتي وهذا العلم فرض عين، وغيره فرض كفاية إلا بمقدار ما يؤدي به الى فرائض الله تعالى، وهو يوفقك حتى تحصّله.
والرابع: ألا تجمع من الدنيا أكثر من كفاية سنة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدّ ذلك لبعض حجراته، وقال:" اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا" رواه مسلم، ولم يكن يعدّ بعد ذلك لكل حجراته بل كان يعدّه لمن علم أن في قلبها ضعفا، وأما من كانت صاحبة يقين فما كان يعدّ لها أكثر من قوت يوم ونصف.