(( فلنعلم أيها الإخوة أنّ تلكم الخلافات التي تقع بين الأئمة وبين غيرهم من العلماء العاملين المخلصين الذين وقفوا حياتهم خدمة لهذه الشريعة، خدمة لكتاب الله-عز وجل-، ولسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- إنما هو خلاف ينتهي إلى وفاق. لماذا؟
لأنّ مرد الجميع هو كتاب الله-عز وجل- وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-، وهم يدركون غاية الإدراك، هم والأئمة الأعلام، والذين استنبطوا لنا كثيرًا من الأحكام من كتاب الله-عز وجل-، ومن سنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-، يدركون معنى قول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) ولا شك أنّ الرد إلى الله إنما هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إنما هو الرجوع إليه في وقت حياته وإلى ما صحّ من سنته عليه السلام بعد مماته، هذا هو المنهج الذي رسمه لنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وسار في ضوئه أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وكذلك اقتدى بهم التابعون الأئمة الأعلام ثم جاء بعدهم أئمة المذاهب وأمثالهم الذين جعلوا حياتهم وقفًا لخدمة هذا الدين، والوصول به إلى نفوس الناس صافيًا نقيًا كما تلقوه ممن قبلهم، وما فهموه من كتاب الله-عز وجل- ، ومن سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
ولو أردنا أن نعرض أقوالهم لوجدنا أنهم كلهم كان يحارب التعصب:
فأبو حنيفة كان يقول يعني أبو حنيفة-رحمه الله- كان لما سئل عن مسألة فقيل: أهذا هو الحق الذي لا شك فيه؟ قال: لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه.
وكان يقول: إذا جاء الأمر عن الله فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن رسول الله فعلى العين والرأس، وإذا اجتمع الصحابة على أمر أخذنا به وإذا اختلفوا تخيرنا من أقوالهم، وإذا جاء عن غيرهم فنحن رجال وهم رجال يقصد عن التابعين.
وكان الإمام مالك إمام دار الهجرة، الذي تضرب إليه أكباد الإبل من مشارق الأرض ومغاربها، هذا الإمام الذي عاش فترة طويلةيعلم الناس في مسجد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يبين لهم ما جاء في كتاب الله-عز وجل- وما ورد في سنته-صلى الله عليه وسلم-، كان يقول : ما منّا إلا رادٌ ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
لماذا لا يرد على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لأنّه (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) أما غيره فهو عرضة يجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد كما بيّن ذلك رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد)).


وكان الإمام الشافعي يقول: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي.
معنى هذا: أنّ الإمام الشافعي لم قال قولين، ووجدنا أنّ هذا القول يخالف حديث صحيح عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فنقول إنّ هذا القول الذي يوافق حديث رسول الله هو قول الإمام الشافعي، لأنّه تبرأ عن كل قول قاله يخالف قول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
وكان الإمام أحمد يقول: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكًا، ولا الأوزاعي، ولكن خذوا من حيث أخذوا.
لكن مَن الذي يأخذ من حيث أخذوا؟
هو الذي لديه القدرة، يعني تجمعت لديه أدلة الاجتهاد، معرفته بالكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، المطلق والمقيد، بأيضًا ما يتعلق بالمسائل الضرورية في اللغة العربية، يعرف أيضًا بعض أهم مسائل مصطلح الحديث، وعلوم القرآن، وهذه التي نبّه إليها الإمام الشافعي-رحمه الله- في كتابه الرسالة.
يعني كل الذي أريد أن أصل إليه أنّ هذه الخلافات وتشعب المسائل التي نراها في كتب الفقه والتي ربما تضيق يها صدور بعض طلاب العلم هي في الحقيقة إنما وصل إليها العلماء نتيجة الاجتهاد ونتيجة حرصهم-رحمهم الله تعالى جميعًا- على الوصول إلى الحق من أقرب طريق وأهداه، فرحمهم الله تعالى جميعًا.)) انتهى.
راجع شرح (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) الشريط: 3/9 للشيخ محمد بن حمود الوائلي