من كتاب المياه:
الإجماع حاصل على أن الأصل في الماء الطهورية لقول الله تعالى: ((وأنزلنا من السماء طهورا)) الفرقان (48) . وقوله تعالى ((وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به)) الأنفال (11).
وهذا الماء يكون منه البحار والأنهار والآبار والعيون وغيرها.
وانعقد الإجماع على أن هذا الأصل –وهو الطهورية- لا ينقدح إلا إذا تغير أحدُ أوصاف الماء الثلاثة: اللون والطعم و الرائحة بأحد النجاسات المتفق عليها.
وهذا الأصل هو الذي خصَّص به العلماء أو قيَّدوا العموم أو الإطلاق الوارد في أهم حديثين في هذا الباب- أعني باب المياه-؛ ألا وهما:
(1) حديث بئر بضاعة. أخرجه أحمد والأربعة وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) حديث القلتين. أخرجه أحمد والأربعة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر.
#فأما الأول: وهو حديث :"الماء طهور لا ينجسه شيء" جوابا على سؤال عن الوضوء من بئر بضاعة التي يلقى فيها من الحِيَض ولحوم الكلاب والنتن. فيدل على أن الماء لا يتنجس بوقوع شيء فيه سواء كان قليلا أو كثيرا، ولو تغيرت أحد أوصافه أو بعضها، وهو مخصوص بالإجماع الذي وافق زيادةَ الاستثناء التي وردت في هذا الحديث من طرق لا تصح بلفظ: "إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه". والاحتجاج بالإجماع لا بالزيادة؛ لِوَهَنِها.
فالماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس.
قال الشافعى رحمه الله : أما حديث بئر بضاعة فإن بئر بضاعة كثيرة الماء واسعة كان يطرح فيها من الأنجاس ما لا يغير لها لونا ولا طعما ولا يظهر له فيها ريح ، فقيل للنبى -صلى الله عليه وسلم- : توضأ من بئر بضاعة وهى يطرح فيها كذا وكذا؟ فقال النبى -صلى الله عليه وسلم- مجيبا :« الماء لا ينجسه شىء ».
فائدة: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، قال: «كنا نفرح يوم الجمعة» قلت: ولم؟ قال: " كانت لنا عجوز، ترسل إلى بضاعة - قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق، فتطرحه في قدر، وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا، ونسلم عليها فتقدمه إلينا، فنفرح من أجله، وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة "
قال الإسماعيلي: في هذا الحديث بيان أن بئر بضاعة بئر بستان فيدل على أن قول أبي سعيد في حديثه يعني الذي أخرجه أصحاب السنن أنها كانت تطرح فيها خرق الحيض وغيرها أنها كانت تطرح في البستان فيجريها المطر ونحوه إلى البئر.اهـ يعني أن الناس لم يكونوا يتعمدمون إلقاء هذه القاذورات في البئر، وهذا يرفع إشكالا، فلله در الإسماعيلي.
#وأما الثاني : وهو حديث "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" جوابا على سؤال عن الماء يكون بالفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، فيدل على أن قدر القلتين من الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة، فهو أيضا مخصص أو مقيد بالإجماع السابق: إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه.
#والحديثان فيهما كلام كثير واضطراب، وعلى قول من لا يصححهما فالإجماع المنقول في هذه القضية هو المعوَّل عليه؛ لأنه في الحقيقة قاضٍ عليهما ومخصص لهما؛ فالأصل في الماء الطهورية بنص القرآن، وكل ماء قليل أو كثير في إناء أو بئر أو بركة أو غير ذلك: إذا سقطت فيه نجاسة غيرت أحد أوصافه المذكورة فإنه لا يجوز استعمال هذا الماء لنجاسته، وإذا لم تغير فيه شيئًا من هذه الأوصاف فهو على أصل طهوريته.
بخلاف الماء المستبحر الكثير جدا فقد وقع الاتفاق أيضا على أن النجاسة لا تؤثر فيه، والله تعالى أعلم.