الشريف حاتم العوني
الجمعة 20/06/2014
لماذا يُخفُون ويخافون اختلافَ العلماء؟!
سؤالٌ وجيهٌ جدًّا، في زمن انفتاحٍ، تفشل فيه كل خطط الإخفاء، وتشيع فيه مفاهيمُ وقِيمُ النِّسْبِيَّةِ بغلو شديد، حتى تَوهّمَ كثير من الناس سَرَيانَ النِّسبيَّة حتى في الثوابت اليقينية، ومع ذلك لايزال يوجد من يخشى من ذكر اختلاف علماء الأمة، كالأئمة الأربعة!! أين يعيش هؤلاء الخائفون؟! كيف يفكّرون؟! ومَن جعلهم في موطن التوجيه والتأثير؟!
وفي هذا السياق، وقبل أسابيع قريبة، جلس إليَّ أحدُ طلبة العلم المتقدّمين في الطلب، وهو من منطقة مشهورة بانغلاق مدرستها الفقهية، وبميلها الكبير إلى التشدّد.
وما اجتمع معي إلاّ لظروف سفر ألجأته إلى مجالستي، وإلاّ ما كنت أظنه سيفكر بالجلوس إلى هذا الرجل المعروف بآرائه المخالفة لمدرسة نشأ هو عليها!
فبدأ بالحديث عن مسألة، ففوجئ برأيي فيها، وفوجئ لمّا علم الخلاف الكبير الذي فيها، ثم فوجئ أكثر بردودي على استدلالات مدرسته التي يعرفها معرفة تامة. وظهرت آثار الاندهاش عليه، وصار يبحث عن اعتراض، فكنت أجيبه، وربما أوردت الاعتراض قبل أن يذكره، فأرى في وجهه علامات الاستغراب، فلا يكون جوابي عليها بأشد غرابة عنده من علمي بالاعتراض قبل ذكره إيّاه!!
وهو لا يعلم أني خريج مدرسته، وأني خبرتها أحسن من أكثر المنتسبين إليها، ولذلك أعرف مداخلها ومخارجها!!
وكان هذا الرجل ذكيًّا لَـمَّاحًا، ولديه تململٌ خفي من التشدّد، لكنه كان بين أسر مدرسته التي حصرت الدين في اجتهاداتها وضغط حياةٍ إسلاميةٍ وتَوسُّعٍ شاهده خلال سفراته الكثيرة، جعلته يميل إلى التخفّي بالتوسع، على أنه في حسبانه ضعفُ وازعٍ إيمانيّ يتستر به عن أهل بلدته، لا على أنه تيسيرُ الدّين وفسحته، بل على أنه ضعف التزامه وزلته. فكان بذلك بين نارين، الله أعلم بعذابهما!!
وخلال فترة قصيرة، تكرر حديثه معي. وتكرر المشهد السابق معه، في بضع مسائل معدودة. وفاجأني مرة، فصرّحَ لي بعفوية معبّرة عن لومه لشيوخه، لماذا لم يعرضوا مسائل الاختلاف المعتبر بكل تجرّد ووضوح؟! لماذا يوهموننا دائمًا -حسب كلامه- أن خلاف ترجيحهم قول ضعيف لا حظ له من النظر، إذا اضطُروا إلى الإشارة إلى الاختلاف؟!
والحقيقة أن هذا المشهد تكرر لي مع آخرين عديدين غير صاحبنا هذا، ولايزال يتكرر.
لكن الغربب في هذا الرجل خاصة، أني لمحت منه في إحدى آخر الجلسات نظرات تخوّف من استمرار حديثي معه حول إحدى المسائل التي هي من قبيل المسائل السابقات، التي كان يأخذ فيها بقول مدرسته المتشدّد، والصواب فيها كان في التيسير الذي عليه جمهور الفقهاء سواهم!
رأيته وكأن نظرته تطلب مني الرفق بقلبه، وكأنه يقول: حنانيك! أخشى أن أبغض مدرستي! أخشى أن أكره شيوخي! أخشى أن أشعر بضياع عمري على منهج رُبينا عليه!!
فقد كان في البداية يستفصل عن الأدلة، ويحاول الدفاع عن ترجيح مدرسته، بكل ما يستطيع.
أمّا في الأخير، فصار يكتفي بسماع ترجيحي، وبداية استدلالي، ثم يبلع ريقه، وبشرب عليه جرعة ماء، ثم يهرب بفكره (أو ينتقل) إلى مسألة جديدة!!
هذا الطالب إذا لم يُوفق لمن يأخذ بيديه إلى فسحة الفقه الحقيقية، فقد يصل به العذاب إلى أن يكون مشروع انتكاسة حقيقية!!
ومثله كثير!!
فاتقوا الله يا شيوخ القطع والجزم في ظنون الترجيح، فقد أصبحتم مشروع انتكاسة عن الدّين!!.