الشاعر أبو دُلامــة

بقلم د, فالح الحجية


زند بن الجون قصاص بن لاحق وكنيته (ابو دلامة ) وقد اشتهر بهذه الكنية حتى غلبت على ا سمه وان كنيته ولهذه الكنية اسباب جعلت الناس يختارونها له دون سواها. فقد ذهب البعض إلى القول بانه لقب بها نسبة لابنه الذي كان يدعى ( دلامة ). بينما ذكر اخرون بان دلامه اسم جبل مطل على على الحجون باعلى مكه ويقال ان هذا الجبل كان اسودا ذا صخر املس وكان موقعا لوأد البنات في الجاهليه. فكني به لتقارب الشبه بينه وبين هذا الجبل وهو الطول والسواد.

وقيل ان اباه كان عبدا لرجل من بني اسد من اهل الرقه يقال له (قصاقص ) . انتقل إلى الكوفه مع مولاه فنشأ (أبو دلامة ) بالكوفة متصلا بالولاء لبني اسد. ثم اعتقه ولم يعرف متى تم عتقه . وكذلك لم تذكر كل المصادرالتاريخي ة تاريخا لولادته ولكن ( أبو دلامة ) قد عرف في عصر السفاح لذا نقرر انه قد قضى أكثر من عشرين عاما في الدوله الاموية في الاقل وبهذا تكون ولادته في عام 110.هجرية - او اقل او اكثر بخمس سنوات .

لقد شهد أبو دلامة الدولة الأموية في صباه ولم يكن له فيها ذكر حيث لم يكن للموالى اي اعتبار عند الأمويين فلما جاءت الدولة العباسية انضمّ إليها وصار من (صحابة المنصور ) وكان هذا لقب رسمى للمقربين من المنصور و اشتهر وهو بالكوفة بالنوادر والشعر الظريف فاصطفاه أبو جعفر المنصور لتسليته فانقطع إليه وإلى أبنه الخليفة المهدى .

ابو دلامة شاعر ساخر عاش في العصر العباسي وكا ن عبـدا لرجل من اهل الرقه من بني اسد واعتقه في ما بعد وهو أحد الشعراء المعاصرين لخلفاء بني العباس الثلاثة الأوائل وهم ابو العباس السفاح والمنصور والمهدي بل يعتبر شاعرهم ونديمهم الخاص فقد نبغ في أيامهم وانقطع إلى أبي العباس السفاح وأبي جعفرالمنصور والمهدي وكانوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره.

اشتهر أبو دلامه بفكاهته ونوادره فكان فكها مرحا حسن الحديث ممتع الرواية. على انه كان متلافا مسرفا في شرب الخمر مستهترا غارقا في الخلاعه والمجون لايقيم الفروض ولا يقر الدين وهو ابعد ما يكون عنه. لكنه لم يتزندق .

ا عتمد العباسيون على الشعر كثيراً فكان بعض مهماته الدعاية لهم وتأييدهم وضرب اعدائهم والاطاحة بهم . وقد استخدموا او استغلوا في هذا الاتجاه شعراء مقربين منهم مثل سديف بن ميمون وأبي دلامة. فعمل سديف على اثارة عواطف الناس ضد الامويين والحث على قتلهم بلا رحمة لاجتثاثهم واستئصالهم ولكن لكي لا يعودون من جديد الى منافستهم. فدفعوا سديف بن ميمون لهذه المهمة في محفل ضم بقايا الامويين الذين دعاهم السفاح الى وليمته فقال:

أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس
بالصدور المقدمين قديماً
والرؤوس القماقم الرواس
يا أمير المطهرين من الذم
ويا رأس منتهى كل راس
أنت مهدي هاشم وهداها
كم أناسٍ رجوك بعد أناس
لا تقيلن عبد شمسٍ عثاراً
وارمها بالمنون والاتعاس
أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار
الهــــــــــــ ــــــوان والإتعاس
أقصهم أيها الخليفة واحسم
عنك بالسيف شأفة الأرجاس
وأذكرن مصرع الحسين وزيدٍ
وقتيلٍ بجانب المهراس

واستغلوا أبا دلامة لكسب الرأي العام إلى جانب الأسرة العباسية الحاكمة الجديدة وبذلك أسهم أبو دلامة في مهمة جديدة في العصر العباسي هي تعظيم الاسرة الحاكمة من بني العباس فيقول في مدح الخليفة المنصور :

لَو كَانَ يُقعَدُ فَوقَ الشَّمسِ مِن كَرَمٍ
قَومٌ لَقِيلَ اقعُدُوا يا آلَ عَبَّاسِ
ثمَّ ارتَقُوا في شُعَاعِ الشَّمسِ كُلُّكُمُ
إلى السَّماءِ فَأنتُم أكرَمُ النَّاسِ
وقَدّمُوا القَائِمَ المَنصُورَ رأسَكُمُ
فَالعَينُ والأنفُ والأذنَانِ في الراسِ

وقال في ولائه لبني العباس:

دِيني على دِينِ بَنِي العَبَّاسِ
ما خُتِمَ الطِّينُ على القِرطَاسِ
إنّي اصطَبَحتُ أربعاً بالكاسِ
فَقَد أدَارَ شُربُها بِرَاسِي

وقد استغله الخلفاء العباسيون بدعايته المضادة لتصفية اعدائهم
وكان المنصور يستظرفه ويضحك من نوادره ولكنه لا يسمح له بتعدي الحدود ويهدده حتى يعرف موضعه وقد مدح المنصور في إحدى قصائده وهجا أبو مسلم الخراساني بعد أن قضى عليه المنصور فقتله وقال في قصيدته :

أبا مســــلم خوفتني القتـــل فانتحى
عليك بمـــــا خوفتني الأســد الورد

أبا مســـــلم ما غيّر الله نعمـــــــــة
على عبــــــد حتى يغيرها العبــــد

أبا مجرم خوفتني القتل فانتحى
عليك بما خوفتني الأسد الورد

أفي دولة المنصور حاولت غدره
ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد

وأنشدها للمنصور في محفل من الناس فأمر له بعشر آلاف درهم فلما خلى به قال له :
-أما والله لو تعديتها لقتلتك..
أى أن المنصور توعد أبا دلامة أن يلتزم مكانه بوظيفته مجرد مهرج فليس له أن يهاجم من كان خصماً للخليفة أو يخاطبه من موقع الند للند لأن ذلك الخصم كان في وقته نداً للخليفة نفسه .

اشتهر ابو دلامة بالنوادر والفكاهة وكثرت قصصه وحكاياته مع الخلفاء ابي العباس السفاح وابي جعفرالمنصور والمهدي واذكر هنا بعضا منها والتي تبين تندره وشاعريته .

قيل عنه: أنه كان واقفاً بين يدي السفاح
فقال له: سلني حاجتك
فقال أبو دلامة: كلب صيد
قال: أعطوه إياه.
قال: ودابة أتصيد عليها.
قال: أعطوه.
قال: وغلام يقود الكلب ويتصيد به
قال: أعطوه غلاماً.
قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه
قال: أعطوه جارية.
قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال فلا بد لهم من دار يسكنونها قال:أعطوه داراً تجمعهم.
قال: فإن لم يكن ضيعة فمن أين يعيشون؟
قال: قد أقطعتك مائةجريب عامرة ومائة جريب غامرة.
قال: وما الغامرة؟
قال: ما لا نبات فيه.
قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد.
فضحك الخليفة
وقال: اجعلوا المائتين كلها عامرة.
قال: فأذن لي أن أقبل يدك
قال: أما هذه فدعها فإني لا أفعل.
قال: والله ما منعت عيالي شيئاً أقل عليهم ضرراً منها.

ولما توفي السفاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزونه فقال:

أمسيت بالأنبار يا بن محمد لم تستطع عن عقرها تحويلا

ويلي عليك وويل أهلي كلهم ويلا وعولاً في الحياة طويلا

فلتبكين لك السماء بعبرة ولتبكين لك الرجال عويلا

مات الندى إذ مت يا بن محمد فجعلته لك في التراب عديلا

إني سألت الناس بعدك كلهم فوجدت أسمح من سألت بخيلا

ألشقوتي أخرت بعدك للتي تدع العزيز من الرجال ذليلا؟

فلا حلفن يمين حق برة تالله ما أعطيت بعدك سولا

قال: فأبكى الناس الناس قوله. فغضب المنصور غضباً شديداً .
وقال: إن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك.
قال: يا أمير المؤمنين إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي
مكرماً وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بإخوة يوسف إليه فقل كما قال يوسف لاخوته : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) فسرى عن المنصور
وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة فسل حاجتك.
قال: يا أمير المؤمنين قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً وهو مريض ولم أقبضها.
فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟
قال: هؤلاء وأشار إلى جماعة ممن حضر . فوثب سليمان بن
مجالد وأبو الجهم
فقالا: صدق أبو دلامة نحن نعلم ذلك.
فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغيظ: يا سليمان ادفعها إليه وسيره إلى ذا الطاغية يعني عبد الله بن علين وكان قد خرج بالشام وأظهر الخلاف فوثب أبو دلامة .
وقال: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن أخرج معهم ووالله ما أحب
أن يجرب ذلك مني على مثل هذا العسكر، فإني لا أدري أيهما يغلب: يمنك أو شؤمي إلا أني بنفسي أوثق وأعرف وأطول تجربة.
فقال المنصور: دعني وهذا، فمالك من الخروج بد.
قال:فإني أصدقك الآن شهدت والله تسعة عشر عسكراً كلها هزمت وكنت سببها فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك تمام العشرين فافعل.
فضحك المنصور وأمره أن يتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة

و يروى انه دخل يوما على ابي جعفر المنصور- وكان عنده ولداه جعفر والمهدي ووزيره عيسى بن موسى .
فقال له المنصور: عاهدت الله يا ( أبا دلامة ) ان لم تهج أحدا ممن في الجلس لاقطعن لسانك فحدث أبو دلامه عن نفسه قائلا :
فكان المجاس الخليفة وابناه وابن عمه. وكل منهم يشير الي .
- فقلت في نفسي قد عاهد وهو لابد فاعل. ثم نظرت إلى اهلهذا المجلس كل يشير باصبعه بالصلة ان تخطيته فأيقنت اني ان هجوت احدهم قتلت. والتفت يمنه ويسره لارى بعض الخدم لأهجوه فما وجدت احدا .فقلت في نفسي اما حلف على من في المجلس وانا أحد من في المجلس ومالي ان هجوت نفسي فقلت:
الا قبحت انت ابا دلامة
فلست من الكرام ولا الكرامه

اذا لبس العمامه قلت قردا وخنزيرا اذا نزع العمامه

جمعت دمامه وجمعت لـؤما كذاك اللؤم تتبعه الدمامه

فان تك قد جمعت نعيم دنيا فلا تفرح فقد دنت القيامـه

فضحك المنصور حتى استلقى وامر له بجائزة سنية .


وقيل شرب أبو دلامة في بعض الحانات فسكر فمضى وهو يتمايل يمينا وشمالا فلقيه العسس ( الحراس الليليون ) فأخذوه فقيل له:
- من أنت؟ وما دينك؟
فقال:

ديني على دين بني العباس
ما ختم الطين على القرطاس

إذا اصطحب أربعاً بالكاس
فقد أدار شربها براسي

فهل بما قلت لكم من باس

فأخذوه وخرقوا ثيابه وساجه وأ تي به إلى المنصور فأمر بحبسه مع الدجاج في بيتها .فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد وهو مع ذلك يسمع صوت الدجاج وزقاء الديكة. فلما أكثر قال له السجان: ما شأنك؟
قال: ويلك! من أنت؟ وأين أنا؟
قال السجان : قال: أنت في الحبس وأنا فلان السجان.
قال: ومن حبسني؟
قال:أمير المؤمنين.
قال: ومن خرق طيلساني؟
قال: الحرس.
فطلب أن يأتيه بدواة وقرطاس ففعل فأتاه بها فكتب إلى أبي جعفر المنصور يقول:

أمير المؤمنين فدتك نفسي
علام حبستني وخرقت ساجي

أمن صهباء صافية المزاج
كأن شعاعها لهب السراج

وقد طبخت بنار الله حتى
لقد صارت من النطف النضاج

تهش لها القلوب وتشتهيها
إذا برزت ترقرق في الزجاج

أقاد إلى السجون بغير جرم
كأني بعض عمال الخراج!

فلو معهم حبست لكان سهلاً
ولكني حبست مع الدجاج

وقد كانت تخبرني ذنوبي
بأني من عقابك غير ناج

على أني وإن لاقيت شراً
لخيرك بعد ذاك الشر راجي

فاستدعاه المنصور وقال له : أين حبست يا أبا دلامة؟
قال: مع الدجاج.
قال: فما كنت تصنع؟
قال: أقوقي معهم إلى الصباح
فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة.
فلما خرج قال الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين أما سمعت قوله: وقد طبخت بنار الله؟ يعني الشمس
قال: لا والله، ما عنيت إلا نار الله الموقدة التي تطلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرض له.

وقيل في حديث جعفر بن حسين اللهبي فقال:
-حدثني أبو دلامة قال:
- أتى بي المنصور وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة .

فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه! فضحك
وقال: والله العظيم لأدفعن إليك ذلك ولآخذنك بالوفاء بشرطك .
فنزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفع ذلك إلي وعاد بغيره فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي
قلت: أيها الأمير هذا مقام العائذ بك وقد قلت أبياتها فاسمعها.
قال:هات فأنشدته:

إني استجرتك أن أقدم في الوغى
لتطاعن وتنازل وضراب

فهب السيوف رأيتها مشهورة
وتركتها ومضيت في الهراب

ماذا تقول لما يجيء ولا يرى
من بادرات الموت بالنشاب

فقال: دع هذا عنك .
وبرز رجل من الخوارج يدعو إلى المبارزة
فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة.
فقال ابو دلامة : أنشدك الله أيها الأمير في دمي.
فقال: والله لتخرجن!
فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا وأنا والله جائع ما تنبعث مني جارحة من الجوع فمر لي - ايها الامير - بشيء آكله ثم أخرج .
فأمر لي برغيفين ودجاجة فأخذت ذلك وبرزت عن الصف. فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس
فاقفعل وعيناه تقدان فأسرع إلي
فقلت: على رسلك يا هذا!
فوقف فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟
قال: لا.
قلت: أتستحل أن تقتل رجلاً على دينك؟
قال: لا.
قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقابله إلى دينك؟
قال: لا فاذهب عني إلى لعنة الله
فقلت: لا أفعل أو تسمع مني.
قال: قل.
فقلت: هل كانت بيننا عداوة أو ترة أو تعرفني بحال تحفظك علي
أو تعلم بيني وبين أهلك وتراً؟
قال: لا والله
قلت: ولا أنا والله لك إلا علي جميل الرأي فإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أرادك.
فقال: يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف.
قلت: إن معي زاداً أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتوكد المودة بيننا
ويرى أهل العسكرين هوانهم علينا
قال: فافعل.
فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني .
ثم قلت له: إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعب وتتعبني فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل.
قال: قد فعلت
فانصرف وانصرفت.
فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري يكفيك قرنه كما كفيتك. وخرج آخر يدعو إلى البراز
فقال لي: اخرج إليه فقلت:

إني أعوذ بروح أن يقدمني
إلى القتال فتخزى بي بنو أسد

إن البراز إلى الأقران أعلمه
مما يفرق بين الروح والجسد

قد حالفتك المنايا إذا رصدت لها
وأصبحت لجميع الخلق كالرصد

إن المهلب حب الموت أرثكم
فما ورثت اختيار الموت عن أحد

لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها
لكنها خلقت فرداً فلم أجد

قال: فضحك روح وأعفاني.

قال عنه أبو الفرج الأصفهاني في اغانيه :

( كان أبو دلامة رديء المذهب، مرتكباً للمحارم، مضيعاً للفروض متجاهراً بذلك، وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محله. وله أخباروأشعار ليس هذا موضع ذكرها، وإنما نثبت في هذا الموضع ما له من نادرة أ و حكاية.
ودخل ابو دلامة يوما على أبي جعفر المنصور وكان المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد والقلانس الطوال تدعم بعيدان من داخلها وأن يعلقوا السيوف في المناطق ويكتبوا على ظهورهم: ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)
فلما دخل عليه أبو دلامة في هذا الزي .
قال له المنصور: ما حالك؟
قال: شر حال يا أمير المؤمنين وجهي في نصفي وسيفي في استي
وقد صبغت بالسواد ثيابي ونبذت كتاب الله وراء ظهري ثم أنشد:

وكنا نرجى منحة من إمامنا
فجاءت بطول زاده في القلانس

تراها على هام الرجال كأنها
دنان يهود جللت بالبرانس

فضحك منه المنصور وأعفاه وحذره من ذلك
وقال: إياك أن يسمع هذا منك أحد.)

وقيل خرج المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل ورمى المهدي سهماً فأصاب ظبياً ورمى علي بن سليمان فأصاب كلبا فقتله فقال أبو دلامة:

قد رمى المهدي ظبياً شك بالسهم فؤاده

وعلي بن سليما ن رمى كلباً فصاده

فهنيئاً لهما ك ل امرئ يأكل زاده

فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه .
وقال: صدق والله أبو دلامة وأمر له بجائزة سنية فلقب علي بن سليمان بعد ذلك صائد الكلب فغلب اللقب عليه.


وقيل لما نويت الخيزران الحج فلما خرجت قاصدة بيت الله الحرام صاح أبو دلامة:
- جعلني الله فداك الله الله في أمري!
فقالت: من هذا؟
قالوا: أبو دلامة.
فقالت: سلوه ما أمره
قالوا له: ما أمرك؟
قال: أدنوني من محملها
قالت: أدنوه
فأدنى فقال لها:
- أيها السيدة إني شيخ كبير وأجرك في عظيم.
قالت: فمه!
قال: تهبيني جارية من جواريك تؤنسني وترفق بي وتريحني من عجوز عندي قد أكلت رفدي وأطالت كدي فعاف جلدي جلدها وتشوقت لفقدها.
فضحكت الخيزران
وقالت: سوف آمر لك بما سألت.
فلما رجعت تلقاها وذكّرها وخرج معها إلى بغداد فأقام حتى غرض. ثم دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون فدفع إليها رقعة قد كتب بها إلى الخيزران فقال لها:

أبلغي سيدتي با لله يا أم عبيده

أنها أرشدها ا لله وإن كانت رشيده

وعدتني قبل أن تخ رج للحج وليده

فتأنيت وأرسل ت بعشرين قصيده

كلما أخلقن أخلف ت بعشرين قصيده

ليس في بيتي لتمهي د فراشي من قعيده

غير عجفاء عجوز ساقها مثل القديده

وجهها أقبح من حو ت طري في عصيده

ما حياة مع أنثى مثل عرسي بسعيده

فلما قرأت عليها ضحكت ودعت بجارية من جواريها فائقة الجمال فقالت لها: خذي كل مالك في قصري .
ففعلت ثم دعت بعض الخدم وقالت له:
-سلمها الى ابي دلامة .
فانطلق الخادم بها فلم يجده في منزله
فقال لامرأته: إذا رجع أبو دلامة فادفعيها إليه وقولي له:
-تقول لك السيدة ( ويعني بها الخيزران ): أحسن صحبة هذه الجارية
فقد أمرت لك بها.
فقالت له : نعم.
فلما خرج الخادم دخل ابنها (دلامة) فوجد أمه تبكي فسألها عن خبرها فأخبرته
قالت: إن أردت أن تبرني يوماً من الأيام فاليوم.
قال: قولي ما شئت فإني أفعله.
قالت: تدخل عليها فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرمها عليه وإلا ذهبت بعقله فجفاني وجفاك .
ففعل ودخل إلى الجارية فوطئها ووافقها ذلك منه وخرج.
فدخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية؟
قالت: في ذلك البيت
فدخل إليها شيخ محطم ذاهب فمد يده إليها وحاول تقبيلها
فقالت: مالك ويحك! تنح وإلا لطمتك لطمة دققت منها أنفك.
فقال لها: أبهذا أوصتك السيدة؟
قالت: بعثت بي إلى فتى من هيئته وحاله كيت وكيت وقد كان عندي آنفاً ونال مني حاجته.
فعلم أنه من دهاء أم دلامة وابنها. فخرج أبو دلامة إلى دلامة فلطمه ولببه وحلف ألا يفارقه إلا إلى المهدي. فمضى به ملبباً حتى وقف بباب المهدي فعرف خبره وأنه جاء بابنه على تلك الحال.
فأمر بإدخاله فلما دخل قال: مالك؟
قال: فعل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يفعله ولد بأبيه ولا يرضيني إلا أن تقتله.
قال: ويحك! وما فعل بك؟
فأخبره الخبر فضحك حتى استلقى ثم جلس.
فقال له أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟
فقال:علي بالسيف والنطع.
فقال له دلامة: قد سمعت قوله يا أمير المؤمنين فاسمع حجتي.
قال:هات!
قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجهاً هو يفعل بأمي منذ أربعين سنة ما غضبت وفعلت أنا بجاريته مرة واحدة فغضب وصنع بي ما ترى.
فضحك المهدي أشد من ضحكه الأول
ثم قال: دعها له يا أبا دلامة وأنا أعطيك خيراً منها
قال: على أن تخبأها لي بين السماء والأرض وإلا فعل بها والله كما فعل بهذه فتقدم إلى دلامة ألا يعاود الى مثل فعلته وحلف أنه إن عاود قتله ثم وهب له جارية.

وقال في صيام شهر رمضان :

أدعوك بالرّحم التي جمعت لنا
في القرب بين قريبنا و الأبعد

ألا سمعت و أنت أكرم من مشى
من منشد يرجو جزاء المنشد

حلّ الصيام فصمتُه متعبداً
أرجو ثواب الصائم المتعبد

و سجد ت حتى جبهتي مشجوجة
مما أكلّف من نطاح المسجد


مات ابو دلامة ببغداد سنة 161 هـجرية -778 ميلادية

واختم بهذه الابيات من شعره :
.

ألم تعلموا أن الـخـلـيفة لـزنـي
بمسجده والقصر، ما لي وللقصـر


أصلي به الأولى مع العصر دائمـاً

فويلي من الأولى وويلي من العصر


ووالله ما لي نية فـي صـلاتـهـم


ولا البر والإحسان والخير من أمري

وما ضره والـلـه يصـلـح أمـره

لو أن ذنوب العالمين على ظهـري

امير البيان العربي
د. فالح الحجية الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز



**************************