بسم الله الرحمن الرحيم
نشر موقع ( الإسلام اليوم ) فتوى لأحد الفضلاء - عفى الله عنه - ، هوّن فيها من أمر الإسبال المحرّم ، خلاصتها كما يقول : ( ولهذا فإن الأرجح دليلاً وتعليلاً أنه يحرم من الإسبال ما كان لخيلاء، ولا يحرم ما كان لغير ذلك ) . والغريب قوله - بعد هذا - : ( وليس المقصود من هذا هو مجرد التسهيل، ولا أن نبادىء الناس بذكر ذلك، ولكنها موقظة لطالب العلم المتخصص أن يجعل الأمر في نصابه، بأن يوطن نفسه على أن المسألة اجتهادية ) ! فإن كان هذا المقصود .. فلماذا نشرها على الملأ ؟ ألا يكون هذا العمل منك مبادأة لآلاف المسلمين الذين يزورون الموقع ؟! وهذا يتناقض مع قولك السابق - عفى الله عنك - . ومما يلاحظ في هذا المقام أن بعض المفتين ( المعاصرين ) المولعين بفقه التيسير المحدَث - بسبب ضغط الواقع أو محاولة كسب الناس أو التحرج من الصدع بالحق لئلا يُتهم بضيق الأفق ! والتشدد ! - عندما يطلع على أقوال العلماء في مسألة فقهية ما ، لم يكن قد اطلع عليها من قبل ؛ لتقصير منه ، فإنه يظن أن كبار العلماء الذين أفتوا بما يدل عليه الدليل الصحيح ، لم يطلعوا على تلك الأقوال ! فيتوهم - فرحًا - أنه قد أتى بجديد ! ويُصور للناس أننا كنا منغلقين على قول واحد ، حتى أتى هو وغيره من ( المُحدَثين ) ، وكشفوا الستار عن أقوال كثيرة في المسألة كانت مُغيبة عنا !! وما أتي هذا إلا من سذاجته وانغلاقه وجهله ، وإلا فإن العلماء الكبار كانت تمر بهم هذه الأقوال في قراءاتهم وبحوثهم ودروسهم ، ولكنهم - لتقواهم وورعهم - لا يذكرون في فتيا الناس إلا الراجح من الأقوال ، المؤيد بنصوص الكتاب والسنة .
أما نقد فتواه السابقة التي نشرها موقع ( الإسلام اليوم ) - كعادته في محاولة تأصيل منهج التمييع الفقهي في هذه البلاد ، الذي ثمرته المرة التهوين من أمر المعاصي بل الكبائر ، وجعل الناس يتقحمونها معتقدين أنها شرع الله ، بعد أن كانوا يفعلونها على وجل وتأميل للتوبة ، وهنا تكمن خطورة هذا المنهج - ، فإني أكتفي بإيراد كلام نفيس من كتاب " حد الثوب .. " للشيخ بكر أبوزيد - رحمه الله - ، في الرد على من تعلق بشبهة ( الخيلاء ) ، وليقارن القارئ بين تحذيره ونصحه للمسلمين عن هذا الأمر المحرم ، الذي شددت فيه النصوص النبوية ، وبين تهوين الأمر من صاحب الفتوى السابقة ، والموقع الناشر لها . والله المستعان .
قال الشيخ بكر - رحمه الله - ( ص 16-24 ) معددًا حالات ( التحريم ) في لبس الإزار :
( وحالتان فيما تحت الحدِّ الأَقصى لأَطراف اللباس: من تحت حده بنصف الساق إِلى الكعبين, وهما:
1- تغطيةُ الكعبين بالإِزار, وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال : " ليس للكعبين حق في الإِزار " , كما تقدَّم في حديث حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه -.
2- تحريمُ ما نزلَ عن الكعبين من كُلِّ ما يُلبسُ من إِزارٍ, أَو ثوبٍ, أَو حلَّةٍ, أَو كساءٍ, أَو عباءةٍ, أَو سراويلَ, إِلى غير ذلك مما يلبسه الرجال, وعلى عموم النهي جاءت فتوى ابن عمر – رضي الله عنهما - في قوله: ( ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم *في الإِزار فهو في القميص ) . [رواه أَبو داود]. أَي في النهي عن الإِسبال في الإِزار, والقميص, والعمامة, ونحوها, وفَتْواهُ هذه هي في معنى حديثه المرفوع, أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الإِسبالُ في الإِزارِ, والقميص, والعمامة, مَنْ جَرَّ منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إِليه يوم القيامة ) [ رواه أَبو داود وغيره] .
وهذا هو: ( الإِسبالُ ) المنهيُّ عنه شرعاً من وجوه عدة, ويسميه أَمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: ( فضول الثياب ) , وقال: ( فضولُ الثيابِ في النار ) [ ذكره ابن عبد البر في: (الاستذكار): 26 / 188] . وهو أَحد الأَقوال الثمانية في تفسير قول الله تعالى: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) . أَي: وثيابك فَشَمِّر وَقَصِّر, فإِن تقصيرَ الثياب أَبعد من النجاسة, فإِذا انْجَرَّتْ على الأَرض لم يُؤْمَن أَن يصيبَها ما يُنَجِّسُها, وقيل: وثيابك فأَنْقِ, ومنه قولُ امريء القيس:
ثيابُ بني عوف طَهَارَى نَقِيَّة ** وأَوْجُهُهُمْ بِيْضُ المَسَافر غُرَّانُ
وحقِيقَته: إِرسالُ اللباس وإِطالتهُ وإِرخاؤه تحت الكعبين, وتعريضُه لجَرِّ طرفه على الأَرض إِذا مشى.
وأَحاديثُ النهيِ عن الإِسبال بَلَغَتْ مبلغَ التواترِ المعنوي, في الصحاح, والسننِ, والمسانيدِ, وغيرها, بروايةِ جماعةٍ من الصحابة – رضي الله عنهم - منهم: العَبادِلَةُ هنا: ابن عباس, وابن عمر, وابن مسعود, وأَبو هريرة, وأَنس, وأَبو ذر, وعائشة, وهُبَيْب بن مُغَفَّل الأَنصاري, وأَبو سعيد الخدري, وحذيفة بن اليمان, والمغيرة بن شعبة, وسمرة بن جُندب, وسفيانُ بنُ سهلٍ, وأَبو أُمامةَ, وعُبيدُ بنُ خالدٍ, وأَبو جري الهجيميّ: جابرُ بنُ سليم, وابْنُ الحَنظْلِيَّةِ, وعمرو ابن الشريد, وعمرو بنُ زرارةَ, وعمرو بنُ فلانٍ الأَنصاريُّ, وخزيم بنُ فاتك الأَسديُّ – رضي الله عنهم أَجمعين - وجميعُها تفيدُ النهيَ الصريحَ نهيَ تحريم, لما فيها من الوعيد الشديد, ومعلومٌ أَنَّ كُلَّ مُتَوَعد عليه بعقاب من نار, أَو غضب, أَو نحوها, فهو محرَّمٌ, وهو كبيرةٌ, ولا يقبلُ النسخَ, ولا رفعَ حُكْمِه, بل هو من الأَحكامِ الشرعيةِ المُؤبَّدةِ في التحريمِ, و( الإِسبالُ ) هنا كذلك, لوجوه:
1- مخالفةُ السُّنة .
2- ارتكابُ النهيِ .
3- الإِسرافُ, وهذا ضياعٌ لتدبير المال. ولهذا أَمرَ عمرُ –رضي الله عنه- ابنَ أَخيه برفعِ إِزاره, وقال له: ( هو أَبقى لثوبك, وأَتقى لربك ) .
4- المَخِيْلَةُ, والخيلاءُ, والتَّبَخْتُرُ, وهذا ضياعٌ مضِرٌّ بالدِّين, يورثُ في النَّفس: العُجْبَ, والترفع, والفَخْرَ, والكِبْرَ, والزَّهْوَ, والأَشَرَ, والبَطَر, ونسيانَ نعمة الله سبحانه على عبده, وكلُّ هذا من موجباتِ مَقْتِ للمُسْبِلِ, ومقتِ الناسِ له, و( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) . و( إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ ) . والدار الآخرة كما قال تعالى: ( تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .
5- التَّشبُّهُ بالنِّساءِ .
6- تعريضُ المَلْبْوس للنجاسة, والقَذَر, ومسح مواطئ القَدم .
7- لِشِدَّةِ تأثير الإِسبال على نفس المسبل وما لكسب القلب من حالة وهيئة منافية للعبودية, منافاة ظاهرة, أَمر النبي صلى الله عليه وسلم المسبلَ بإِعادة الوضوء, وأَن الله لا يقبل صلاة مسبل, وحملَ الفقهاء ذلك الحديث على الإِثم مع صحة الصلاة, كحال فيمن صلى في كل ثوب يحرم لبسه, وفي الدار المغصوبة, وكما في تحريم آنية الذهب والفضة اتخاذاً, واستعمالاً, وتحريم الوضوء منهما, خلافاً لابن حزم, ومذهب أَحمد, القائل ببطلان وضوء المسبل وصلاته, وأَنَّ عليه الإِعادة لهما غير مسبل, نعم: لا يصلي المسلم خلف مسبل اختياراً .
8- يُعَرِّضُ المُسْبِلُ نَفْسَهُ للوعيد الشديد في الدُّنيا والآخرة, إِذْ يُكْسِبُهُ الإِثمَ, والخَسْفَ بالمسبل, وأَن الله لا يحبُّ المُسْبِلِينَ, ولا ينظرُ الله إِلى مسبل, وليسَ المسبلُ من الله في حِلٍّ ولا حرامٍ, أَي لا يُبَالِهِ اللهُ بالَهُ, وأَن المسبل وما أَسبل متوعد بالنار, على حـدِّ قول الله تعالى: ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) , وقيل: معنى الحديث: ( ما أَسفلَ الكعبينِ مِنَ الإِزارِ ففي النارِ ) أَي مِنْ قدم المسبل ففي النار عقوبةً له على فِعْلِهِ .
• لهذه الوجوه وردَ النهيُ عن الإِسبالِ مُطْلقاً في حَقِّ الرجال, وهذا بإِجماعِ المسلمين, وهو كبيرةٌ إِن كان للخيلاء, فإِن كان لغيرِ الخيلاءِ فهو محرَّمٌ مذمومٌ في أَصَحِّ قولي العلماء, والخلاف للإِمام الشافعي والشافعية في أَنه إِذا لم يكن للخيلاء فهو مكروه كراهة تَنْزِيهٍ, على أَنَّه قد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقضي بأَن مُجَرَّدَ الإِسبال: ( خيلاء ) , فعن ابن عمر – رضي الله عنهما - مرفوعاً: ( وإِيَّاك وَجَرَّ الإِزار فإِنَّ جَرَّ الإِزار من المخيلة ) [رواه ابن منيع في مسنده ] , وعن أَبي جري الهجيمي جابر بن سليم, مرفوعاً: ( وإِيَّاكَ والإِسبالَ فإِنَّه من المخيلة ) [ رواه أحمد في المسند ] . فظاهرهما يَدُلُّ على أَن مجرد الجر, يستلزم الخيلاء, ولو لم يقصد اللابسُ ذلك, فالمسلم ممنوع منه لكونه مظنة الخيلاء, ولو كان النهي مقصوراً على قاصد الخيلاء غير مطلق, لما ساغ نهي المسلمين عن منكر الإِسبال مطلقاً, لأَن قَصْدَ الخيلاء من أَعمال القلوب, لكن ثبت الإِنكار على المسبل إِسباله دون الالتفات إِلى قصده, ولهذا أَنكر صلى الله عليه وسلم على المسبل إِسباله دون النظر في قصده الخيلاء أَم لا, فقد أَنكرَ صلى الله عليه وسلم على ابن عمر – رضي الله عنهما -, وأَنكرَ على جابر بن سليم, وعلى رجل من ثقيف, وعلى عمرو الأَنصاري, فرفعوا – رضي الله عنهم - أُزُرَهُمْ إِلى أَنصاف سُوقِهِمْ . وهذا يَدُلُّكَ بوضوح على أَن الوصفَ بالخيلاء, وتَقْيِيدَ النهي به في بعض الأَحاديث, إِنَّما خَرَجَ مخرجَ الغالب, والقيد إِذا خرجَ مخرج الأَغلب, فإِنَّه لا مفهوم له عند عامة الأُصوليين, كما في قوله الله تعالى: ( وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) ، فاَسْتَقَرَّ بهذه التوجيهات السليمة ولله الحمدُ أَنَّ الإِسْبالَ في حقِّ الرجال مَنْهِيٌّ عنه مُطْلقـاً, وأَنّـَه في ذاته خيلاء, وأَن المسبـل مرتكب لِمُحَرَّمٍ, مجاهـرٌ به, مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ لمـا ورد من الوعيد للمسبلين .
• ويُستثنى من هذا الأَصل ثلاث حالات:
1- من لم يقصد الإِسبال, لعارض من نسيان, أَو استعجال, أَو فزع, أَو حال غضب, أَو استرخاء مع تعاهد له برفعه, كما في قصة استرخاء إِزار أَبي بكر –رضي الله عنه-, إِذ كان يسترخي لنحافة جِسْمِهِ –رضي الله عنه- فَيَنْجَرُّ فيتعاهده برفعه, فهو – رضي الله عنه - لم يقصد الإِسبال, فضلاً عن الخيلاء, ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم : ( لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خيلاء ) . وكما في بعضِ الوقائعِ للنبي صلى الله عليه وسلم المشهورةِ في السنن, وهي من هذا الباب .
2- للضرورةِ مقدرةً بقدرها, كمن أَسبلَ إِزارهُ على قدميه لمرض فيهما, ونحوه, وهذا كالترخيص في لُبْسِ الحرير للحَكَّةِ, وكشفِ العورةِ للتداوي, والخيلاء في الحرب, ونحوها .
3- استثناء النساء, فقد رَخَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم لَهُنَّ بإِرخاء ذيول ثيابهن شبراً, استحباباً, لستر القدمين, وهما من عورة النساء, فإِن كانتا تنكشفان فيرخين ذراعـاً, جوازاً. وهـذا مَحَلُّ إِجماعٍ ) .
ثم ختم الشيخ كتابه بهذه النصيحة القيمة :
*( ولا تنسَ أَيُّها المسلِمُ أَنَّ كُلاًّ من الإِسبال ولِبَاسِ الشُّهْرةِ, دَاعيهمَا ( العُجْبُ ) . فالإِسبالُ باعِثُه ( العُجْبُ الدُّنيَوي ) , ولِباسُ الشُّهرَةِ على الوِجهِ المَذكُورِ بَاعثُه ( العُجْبُ الدِّينِي ) . والعُجْبُ مِن أَمرَاضِ القُلوبِ وهي أَشدُّ من أَمرَاضِ الجَوارِحِ. عَافَانَا اللهُ جميعاً وهَدَانا إِلى الحَقِّ ) . اهـ .
آمين .. وأسأل الله التوفيق للمفتي الفاضل ، بأن يُعيد النظر في فتواه السابقة ، ويحذر ممن يزينون له سلوك هذا الطريق الوعر ، طريق تهوين الأوامر والنواهي الشريعة ، وأسأله تعالى التوفيق للقائمين على موقع ( الإسلام اليوم ) ، وأن يباعد بينهم وبين تأصيل منهج التيسير الفقهي غير الشرعي في هذه البلاد - خاصة - ، بعد أن حماها الله منه - وله الحمد والمنة - ؛ لأن منهجهم هذا لن يفيد الأمة إلا : بكثرة النزاعات ، وانتشار المخالفات وما يترتب عليها من عقوبات ، إضافة إلى - وهو أخطرها - عدم انضباط هذا المنهج المفسد ؛ حيث سيتوسع ويتسلل إلى أمور المعتقد ، كما وجدناه عند من سلكه في بلاد أخرى ، بل سيكون - لا قدر الله - معولا بيد من يريد هدم الدين من داخله ، كالمنافقين العلمانيين ، الذين سيقلدون هؤلاء في مسلكهم ، فينتقون من الأقوال الشاذة والضعيفة ما يخدم أهواءهم .
ونصيحة محب لمن وجد من نفسه فتورًا أو نكوصًا عن بعض الحق ، أن الحل النافع له عند الله ، أن يُقر بهذا القصور ، ويعترف به ، ويحذر من شرعنته ؛ ليكون الشرع تابعًا لهواه وظروفه ، بل يعالج ذلك بالعبادة وسؤال الله الثبات ، وإغلاق منافذ الشر التي أوهنته . والله الهادي ..
كتاب الشيخ بكر - رحمه الله - ، وصفحته :
http://saaid.net/Warathah/bkar/index.htm
حمل رسالة ( منهج التيسير المعاصر )
http://www.kabah.info/uploaders/M-altayser.rar