أجرى الحوار: وائل عبد الغني
ضيفنا اليوم علم من أعلام السنة.. رعاه الله حين مات أبوه وكان عمره ثلاثة أشهر، وأكرمه بأم شفوق محتسبة وهبته للعلم منذ نعومة أظفاره، وصبرت على فراقه رغم حاجتها إليه فقد كان وحيداً، وحباه الله عزيمة وجَلَداً وحباً للعلم، واستعمله في إحياء السنة، تحقيقاً وتعليماً وإشرافاً ونصحاً، أشرف على عشرات الرسائل العلمية في جامعتي الأزهر بالقاهرة والإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وله عناية فائقة ومعرفة كبيرة بالمخطوطات، ويعدّ مرجعاً رئيساً فيها، فأهلاً به ضيفاً كريماً على صفحات البيان.
( البيان ): فضيلةَ الدكتور: نود أن تحدثنا عن رحلتكم العامرة بداية من المنشأ والمولد، وكيف كان ترقيكم في العلم؟
| ولدت في إحدى قرى محافظة الفيوم عام 1359 هـ ـ 1940م، وتولاني الله بعنايته وفضله حين هيأ والدتي ـ يرحمها الله ـ لتنشئني على العلم منذ بواكير حياتي، وكان لإصرارها وتضحيتها ـ بعد فضل الله ـ أكبر الأثر في تفريغي للعلم رغم حاجتها الشديدة لوجودي إلى جانبها كابن وحيد، وقد وهبتني ـ رحمها الله ـ للعلم حين كان العلم شرفاً ينال وتبذل من أجله الأموال، وليس كما هو اليوم إذ أصبح مصدراً للتكسب. حفظت القرآن في حوالي ثلاث سنوات وكان عمري 13عاماً، ودرست في الأزهر الشريف، حتى حصلت على الشهادة الإعدادية في عام 1954م، ثم الشهادة الثانوية في 1961م والتحقت بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، وتخرجت فيها من قسم التفسير والحديث عام 1966م، وحصلت على الماجستير في الحديث في عام 1969م، 1970م ثم الدكتوراه عام 1978م.
( البيان ): رغم ولعكم المبكر بالتفسير وعلومه إلا أنكم اخترتم التخصص في الحديث فما سر ذلك؟
| لا شك أن في هذا حكمة بالغة ونعمة سابغة من المولى ـ جل وعلا ـ عليّ. ابتداءً كان الفضل بعد الله ـ تعالى ـ في دخولي قسم التفسير والحديث لفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود ـ رحمه الله ـ حين كان عميداً لكلية أصول الدين وهو رئيس قسم العقيدة، ومع ذلك كان ينصح ألا نتخصص في قسمه، وكان في ذلك الوقت قد أصدر قراراً بأن من يختار الانتقال من شعبة العقيدة إلى أي شعبة أخرى يسمح له، ومن يختار الانتقال من شعبة الدعـوة أو شـعبة الحديث والتفسـير إلى قســم العقيدة لا يُسمح له.
كان يرى أن شعبة الحديث والتفسير وشعبة الدعوة هما أنفع للطالب وأقرب لتكوينه الإسلامي من شعبة العقيدة والفلسفة؛ فأنا اخترت التفسير والحديث، والحمد لله درست التخصص؛ فلما حصلت على شهادة الإجازة العالية أو الليسانس التحقت بالدراسات العليا تخصص تفسير، وفي امتحان الماجستير؛ حال خطأ إداري بقدر الله بيني وبين التسجيل للدكتوراه في التفسير بعد أن أديت الامتحانات، وتلافياً لهذا الخطأ تحولت بعدها إلى التسجيل في الحديث، وبحمد الله درست الحديث من جديد ونلت الماجستير في الحديث، وكانت الرسالة عن الحافظ العراقي وأثره في السنَّة، وهي نفس رسالة الدكتوراه حيث توسعت فيها، وقد كان مسموحاً بذلك حينها، وقد سعيت في البحث لإبراز مكانة الحافظ العراقي في مدرسة الحديث في مصر أولاً ثم في الحرمين ثانياً، فقضى فترة في مصر، ثم عاش فترة ثلاث سنوات في المدينة النبوية وكانت تحت الحكم المصري (حكم المماليك حينذاك) وهو قاضي المدينة، وكان هو إمام مدرسة الحديث في ذلك العصر الذي هو القرن الثامن الهجري حتى إنه عده العلماء مجدد القرن الثامن الهجري في ذلك التخصص، وكانوا يلقبـونه كما هـو موجود في تراجمه وفي مـؤلفاتـه بـ «حافظ العصر».
( البيان ): وماذا عن بداية اهتمامكم بالمخطوطات: هل كان في ذلك الوقـت أم بعده؟
| بداية الاهتمام بالمخطوطات ترجع إلى المرحلة الثانوية، وأستاذنا الشيخ سيد صقر ـ عليه رحمة الله ـ مدرس المطالعة والبلاغة في المرحلة الثانوية كان لديه اهتمام بالمخطوطات، وكان يصطحب معه في الدرس بعض هذه المخطوطات التي أذكر منها الآن شرح الخطابي لصحيح البخاري، فحببني فيها، ونبهني إلى أماكنها في مصر، ولا سيما معهد المخطوطات.
بالنسبة للتحقيق عندما سجلت موضوع الحافظ العراقي كانت فكرتي عنه أنه له عدة كتب مطبوعة، وأني سأدرسه من خلال الكتب المطبوعة؛ لكن عندما دخلت في الكتابة بعدما كتبت عنه في الماجستير كتابة مختصرة كان لا بد أن أكتب عنه كتابة موسعة في الدكتوراه، فوجدت أن الرجل له كتب نفيسة جدّاًً ما تزال مخطوطة حتى الآن.
( البيان ): مثل ماذا؟
| شرحه لجامع الترمذي وهو من الكتب التي أعددتُها للطباعة قبل عشرين سنة من الآن، ولم يطبع حتى الآن، ولكني بدأت بعد ذلك فوجدت أن شرح العراقي لجامع الترمذي هو تكملة لشرح عالم آخر سبقه وهو ابن سيد الناس اليعمري، فوجدت أنه من القصور بعد التخرج أن أبدأ بتكملة العراقي دون شرح ابن ســيد الناس، وهـو عنـدي الآن ـ ما وجد من هذا الشرح ـ محقق منسوخ ومقابل ومعلق عليه تعليقات كثيرة من عشرين سنة.
وقد قمت بتوثيق النصوص وعزوها إلى مصادرها وتصويب ما يحتاج إلى تصويب منها، أما التعليق فهو الأصعب؛ لذلك طبع جزءان من الكتاب حتى الآن، وهناك جزءان في المطبعة التعليقات عليهما مطولة للغاية؛ بما أراه مفيداً نظراً إلى أن الأحكام التي أصدرها ابن سيد الناس على الـرواة وعلـى الأحـاديث كان لا بد أن يكون لي موقف منها. فاقتضى هذا توسعاً؛ حتى إن أحد الإخوة الفضلاء غير المختصين في الحديث انتقدني في الإطالة؛ بأني كتبت في محمد بن إسحاق مائة وسبعين صفحة تعليقاً عليه، فكان رأيه ـ وهذه وجهة نظره ـ أن هذا خروج بالتحقيق عن منهجه وأن المفروض ألا أطيل بهذا الحجم. وقد كتبت في مقدمة الجزء الثالث رداً على هذا، وهو أن التحقيق يختلف منهجه بحسب خبرة المحقق، وذكرت بعض النماذج ممن طول تطويلاً ارتضاه الأخ الفاضل نفسه.
( البيان ): الآن بوصفكم أستاذاً لعلوم الحديث ما هي أهم الرسائل التي أشرفتم عليها خلال رحلتكم العلمية المباركة؟
| أهم الرسائل من حيث التخصص هي الرسائل التي عنيت بعلم علل الحديث، وأيضاً بتحقيق تراث من علم الحديث لم يكن طبع قبل أن أقترحه أنا على الطلاب ليشتغلوا به. على سبيل المثال في قسم السنَّة في كلية أصول الدين في الرياض كان مما اقترحته على الطلاب قبل أن يعمل فيه أحد كتاب: (الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي، وخرج منه رسالتان قبل أن يطبع بواسطة الناشرين الآخرين، أيضاً كتاب (المختار) للضياء المقدسي كان من الكتب التي اقترحتها على الطلاب وخرج منه حوالي أربع رسائل قبل أن يطبع أيضاً، ومسند أبي يعلى الموصلي كان من الكتب التي اقترحتها على الطلاب في ذلك الوقت وخرج منه ثلاث رسائل قبل أن تطبع الأجزاء الأولى من المسند، وعلل الحديث كانت أول رسالة أشرفت عليها في ذلك التخصص في علل الحديث وأحوال الرجال في رواية المروزي عن الإمام أحمد، وهذه الرسالة نوقشت وانتهت قبل أن يطبع الكتاب بحوالي عشر سنوات، وأيضاً علل الحديث لابن أبي حاتم الرازي، والدارقطني.
( البيان ): من خلال إشرافكم على حوالي مائة وأربع رسائل علمية في الدراسات العليا ما بين ماجستير ودكتوراه في الحديث وعلومه، ما هي توجيهاتكم للباحثين في مجال البحث العلمي عموماً ومجال السنَّة والاعتناء بها على وجه الخصوص؟
| أولاً: أوصي الباحثين ألا يقتصروا في تكوين الخلفية العلمية على المقررات الدراسية؛ لأن المقررات الدراسية مهما بلغت لا يمكن من خلالها أن تتكون لدى الطالب الملكة العلمية التي تجعله ملمّاً دارياً بالحديث، فضلاً عن أن يكون دارساً متخصصاً، وحتى يكون الباحث باحثاً فعليه أن يديم الاطلاع بحسب ما يسمح به وقته ولا يقف عند مرحلة معينة، ويكون لديه اهتمام متواصل بالبحث في دائرة اختصاصه، وما يخدمها، لا سيما اللغة، وأن يكون هذا الاهتمام بالاطلاع الشخصي وبالمذاكرة مع أقرانه وبالمباحثة مع أساتذته، وأن يكون كل هذا مشمولاً بالحسنى وبحسن الخلق وعدم التعالي أو إظهار حظ النفس؛ فالعلم بدون حسن الخلق يكون وبالاً على صاحبه.
ثانياً: المحافظة على الوقت. ولا بد أن أذكر في هذا المجال أن قيمة الوقت في حياة الباحث العلمية تساوي أن يكون أو لا يكون؛ فالوقت لا بد أن يُحسب في عمر الباحث بالدقائق.
الأمر الثالث: أنـه لا بد أن يكون لدى الباحث خلفية علمية أوسع من دائرة التخصص الدراسي الذي يريده، فإذا أراد مثلاً أن يكتب في المصطلح فلا يقصر اطلاعه على المصطلح؛ لأنه لو قصر اطلاعه على مادة المصطلح يخرج بحثه غالبا تكراراً، أو ربما يصعب عليه الابتكار أو الإضافة من خلال كتب المصطلح نفسها، فإذا ما وسع دائرة اطلاعه على كتب السنة عموماً؛ مثل كتب المتون، وكتب الشروح وكتب الرجال، ملك زمام البحث ولانت له الأفكار واستطاع أن يفيد؛ لأن هذه الفروع كلها يخدم بعضها بعضاً، وفي كل منها ما يفسر الإجمال ويجبر القصور في الآخر.
الأمـر الرابـع: أن ينوِّع العمل في الدراسات أو البحوث بين التأليف والتحقيق، فلو أنجز الطالب بحثاً في تحقيق كتاب معين؛ يحسن به أن يعمل في المرحلة التالية في التأليف، فإذا أخذ الماجستير في التحقيق ثم أخذ الدكتوراه في التحقيق أيضاً تكون إفادته وهو أستاذ بعد ذلك في التأليف محدودة، وكذلك لا يقصر عمله على التأليف؛ فالاقتصار على أي من الجانبين يصنع تحيزاً لدى الباحث قد يحرمه من خير كثير؛ فكلا النوعين يغذي كل منهما الآخر؛ فماذا تؤلف إذا لم يكن عندك نصوص؟ وكيف تخدم النصوص إذا لم يكن عندك ملكة التأليف والتعبير؟ فمن مجموع الأمرين يمكن أن تتكون الشخصية العلمية بتوفيق الله عز وجل.
( البيان ): في إطار التكامل بين العلوم الشرعية: كيف توظف علوم الحديث في خدمة العلوم الأخرى؛ يعني هل هناك نوع من التنسيق والتوافق أو التزاوج والتلاقح بين الأقسام العلمية كما يحدث في التخصصات الإنسانية والمادية؟
| التكامل أو التغذية تحتاج إلى تعاون، فإذا لم يوجد رغبة من أقسام الشريعة كالفقه وأصوله مثلاً، للاستفادة من خبرة الحديث والعكس فإن ذلك التكامل لن يكون، وأذكر أنه حدث مثل هذا الموقف ونحن ندرس في جامعة الإمام محمد بن سعود حيث طلب إلينا في قسم الحديث أن نفيد طلاب قسم الفقه والأصول بالخبرة الحديثية بناء على أنهم يتعاملون مع نصوص شرعية وأدلة، فما كان منهم إلا أن قالوا نوافق بشرط أن تأخذوا أنتم أيضاً من تخصصنا أكثر مما تأخذون، فكان هذا المثال لعدم الرغبة في التعاون مما سبب الفصل أو سبب عدم التزاوج بين خبرة المحدث وبين عمل الفقيه. وعلى الطريق الآخر وهو طريق التكامل وجدنا قسم العقيدة وقسم التفسير في نفس الكلية في أصول الدين: فالعقيدة تدرس في كلية أصول الدين في جامعة الإمام من خلال الكتاب والسنة وليس من خلال الجانب العقلي أو المنطقي فقط، ومن ثم يحتاج من يدرس هذا التخصص أن يكون ملماً بالحديث وبتخريجه وبدراسة إسناده وببيان الصحيح من الضعيف بأدلته.
فتم نوع من التكامل الذي يحتاج إلى تعضيد. مثلاً قسم التفسير وقسم العقيدة في الكلية كان يأتي إلى نهاية التخرج بعد أن يدرس الطالب في قسم الحديث إلى مرحلة الليسانس فيختار المعيدين في قسم العقيدة من قسم الحديث، والمعيدين في قسم التفسير بعضهم أيضاً من قسم الحديث، على أساس أن يخدم بالسنة هذين التخصصين، وقد نجح المسؤولون في قسمي العقيدة والتفسير آنذاك في إدخال تدريس طلبة الدراسات العليا مادة عن التخريج ودراسة الأسانيد، والحمد لله كان لها نجاح كبير.
( البيان ): من خلال تدريسكم في أشهر جامعتين إسلاميتين: الإمام محمد بن سعود والأزهر، هل تجدون فرقاً كبيراً بين الجامعتين؟
| من جهة المنهج الفرق ليس كبيراً، بل متقارب بسبب أن وضع المناهج مرتبط بمسألة معادلة الشهادات، كما أن الذين وضعوا مناهج جامعة الإمام معظمهم من الأزهر.
أما التمايز فيأتي من عاملين اثنين تميزت بهما الدراسة المنهجية في جامعة الإمام عن دراسة المناهج نفسها في جامعة الأزهر:
العامل الأول: هو توفر الإمكانات على مستوى المؤسسة وعلى مستوى الطلبة في جامعة الإمام، وهو الذي جعل المواد الدراسية تنجح بدرجة كبيرة؛ فعلى سبيل المثال كلية أصول الدين في الرياض كان لديها لمادة تخريج الحديث خمسة معامل كل معمل فيه مائة مقعد وكل مقعد عليه مكتب يحمل نسخة من الكتب التي في مقرر التخريج؛ أي نسخة لكل طالب؛ بحيث إنك إذا أدخلت مائة طالب للمعمل، فإن طالباً لن يحتاج أن يستعير من الآخر كتاباً، وأنت إذا درّست تطلب فتح الكتاب الفلاني تجد النسخة التي أمامك ـ أنت يا أستاذ ـ هي الموجودة عند كل طالب، وقل الشيء ذاته عن إمكانيات الطالب. وهنا أذكر أن طالبة في السنة الأولى من الدراسات العليا بقسم السنة وعلومها كانت تمتلك في مكتبتها أكثر من ألف كتاب مخطوط مصور فضلاً عن المطبوع.
أما في مصر فتوفر المكتبات العامة يمكن أن يعوض على الأقل 80% مع توفر الهمم.
العامل الثاني: هو الحرص على الاستفادة بالوقت سواء وقت الأستاذ أو وقت الطالب في جامعة الإمام، وأذكر من حرص بعض تلاميذي الأفاضل على ذلك أن أحدهم إذا دق جرس البيت ولم أسعفه بالخروج إليه ـ ربما لدقائق ـ فإذا فتحت أجده يقرأ في كتاب معه إلى أن أفتح له الباب، فإذا ما اعتذرت عن بعض التأخر؟ يقول: لا عليكم أنا أستغل وقتي حتى تفتح الباب.
قيمة الوقت نراها كذلك لدى الإدارة والأساتذة، ولهذا يستفيد الطالب من وقت الدراسة منذ أول لحظة، بل أقول إن هناك جدية وحزماً في عنصر الوقت داخل العملية التعليمية، بكل أطرافها وسيرورتها، وعلى أكمل وجه، وفي عملية الرقابة والإدارة. في جامعة الإمام نجد حزماً وحساسية شديدة تجاه الوقت عما هو موجود في الأزهر.
وكلا العاملين له أثره في عملية إعداد الفرد؛ فالعضو في هيئة التدريس الذي بمرحلة الماجستير أو الدكتوراه بجامعة الإمام إذا قست معدل تحصيله العلمي في تخصصه والعضو المماثل له في الأزهر تجد أن الذي هناك متميز بقدر توافر العاملين له.
( البيان ): العمل الخيري له إسهامه المشكور في نشر العلم: ما هي المجالات العملية التي ترى أن يتوجه إليها العمل الخيري؟
| أنا أتمنى أن تكون هناك جهات وقفية تدار بطريقة ناجحة ومنظمة لتصب في مصلحة العمل تتبنى مثلاً كرسي دراسات إسلامية في جامعة، مثلما يوقِفُ بعض المسلمين أموالهم على كراسي دراسات إسلامية في جامعة مثل كمبردج، فحبذا لو وجدت مثل هذه الخدمة من الأوقاف أو توجهت نحو هذا المجال؛ لأنها بلا شك ستكون عاملاً مساعداً؛ ولتكن هذه النافذة أولاً تبنِّي باحثين يعرف أن عائقهم الوحيد هو الماديات، وتوفر لهم إمكانات البحث بحيث يخرج عملهم في خدمة التراث وفي خدمة علوم الحديث على الوجه المطلوب.
أيضاً إنشاء المكتبات. ولا بد لي أن أذكر في هذا أن الأوقاف المصرية لها مكتبات كانت تتوسع في هذا، مما أدى إلى نتيجة جيدة جداً، بعض المساجد في القاهرة التي أنشئت فيها مكتبات رصيدها لا يقل عن ألف كتاب من المراجع مثل مكتبة أحمد طلعت الموجودة في مسجد أحمد طلعت بالقاهرة وهي مكتبة كبيرة جداً وناجحة، أيضاً مكتبة الشيخ حامد وهي موجودة في القاهرة ويؤمها مئات الباحثين من مصر وغيرها، وحبذا لو تكررت مثل هذه المكتبة وأعيد تزويدها وتنميتها وتنسيقها رجاء التحديث، فالمشكلة مثلاً أنها تفتح بألف كتاب تجدها تنقص ولا تزيد؛ فالأسس موجودة ونريد فقط أن تنمو وتنجح؛ فإذا حصل هذا فلا شك أنه سيكون للأوقاف دور طيب في هذا المجال، فتتبنى باحثين وتفتح مكتبات وتزودها، ويحصل من مجموع الأمرين ـ إن شاء الله ـ ازدهار علمي لا يُشك في نجاحه بإذن الله.
هناك احتياجات قريبة تعد مقدمة للمجال العلمي مثل كفالة الأيتام ومثل الإنفاق على المساجد والمدارس التي تصب بلا شك في المجال العلمي.
وعموماً على الجهات الخيرية أن تتحسس مواضع الحاجة، وأن يكون دورها هذا متنوعاً؛ لأن الصعوبات كثيرة والاحتياجات أيضاً كثيرة، فلو تنوعت جهود أهل الخير كان أفضل حتى يحصل التكامل، وأن توازن هذه الجهات في دورها بين الاحتساب حيث لا تحمِّل الباحث فوق طاقته، وبين أن تجعل أيضاً الاطلاع أو التمكين من الاستفادة بدون مقابل، وإنما يكون هناك شيء رمزي يُشعر بأهمية العمل وفي نفس الوقت يكون متاحاً للباحث.
وبهذا تُستنهض الهمم وتبنى النماذج الواعدة والتي يحول بينها وبين الاستكمال ضعف الإمكانات.
( البيان ): هل هناك نماذج ناجحة في العمل الوقفي على العلم يمكن أن تحتذى؟
| نعم! نحن نعرف مثلاً نظام الأوقاف في دبي. هناك نموذجان من أنجح ما يمكن أن يقال في نظام الأوقاف وهو (مركز جمعة الماجد) و (دار البحوث العلمية) و (إحياء التراث) التي تديرها إدارة الأوقاف في دبي؛ فدار البحوث هذه من فروع الأوقاف، وتحظى برعاية ودعم مشكور من الحكومة ومن الأمراء شخصياً، وقد أصدرت الآن مجلة علمية محكّمة، وأخرجت ما لا يقل عن خمسين كتاباً ما بين بحث وما بين كتاب وما بين تحقيق وما بين تأليف وما بين عقد مؤتمر، مؤتمرات علمية حول المواد الشرعية وطريقة الاستفادة منها، والنهوض بها وغير ذلك، وهذا نموذج طيب جدّاً للأوقاف الناجحة في الحقيقة؛ لأنها أدت رسالة، ويمكن أن نقول إنها بإمكانات أقل من الأوقاف الموجودة في دول أخرى ونتائج أوسع وأفضل.
كذلك بعض جهات الأوقاف في المغرب لها إصدارات ولها صوت يدل على أن جهات الوقف تنتج في هذا المجال.
لا أعني بذلك أن الأوقاف الموجودة في دولةٍ ما ليست منتجة، لكن كما أقول هناك نماذج بالتعاون أنتجت وهناك نماذج لم تثمر.