قوله: (وَيَجِبُ فَوْرًا قَضَاءُ فَوَائِتَ): لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا([1])».
قوله: (مُرَتَّبًا): ويجب أن يكون قضاء الفوائت مرتبًا؛ لأن الله تعالى أمرنا بها على هذا الترتيب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا فاتته الصلاة صلاها مرتبة.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، جَاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا» فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى العَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ([2]).
قوله: (مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ أَوْ يَنْسَ أَوْ يَخْشَ فَوْتَ حَاضِرَةٍ أَوِ اخْتِيَارِهَا): هذه أعذار ترك الفورية أو الترتيب في القضاء.
العذر الأول: التضرر: أن يكون القضاء على الفور سيسبب له ضررًا في بدنه أو ماله، أو غير ذلك؛ كمن به مرض لا يستطيع معه كثرة الصلاة، أو كمن سيسرق ماله إن صلى، ونحو ذلك؛ دفعًا للحرج والمشقة، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]([3]).
العذر الثاني: النسيان: أن ينسى الترتيب؛ لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قَالَ الله: قَدْ فَعَلْتُ([4]).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ([5])».
العذر الثالث: أن يخش فوت وقت صلاة قد حضر وقتها: لأن أداء الصلاة التي حضر وقتها أولى.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((مثال ذلك: رَجُل ذكر أن عليه فائتة، وقد بَقِيَ على أن يكون ظِلُّ كلِّ شيء مثليه ما لا يتَّسع للفائتة والحاضرة، ماذا نقول؟
الجواب: نقول: قَدِّم الحاضرةَ.
ورَجُل آخر ذكر فائتة، وقد بقيَ على طُلوع الشَّمس ما لا يتَّسع لصلاة الفائتة والفجر؛ ماذا نقول له؟
الجواب: نقول: قَدِّم الحاضرةَ، وهي الفجر.
ودليل الوجوب ما يلي:
أولًا: أن الله أمر أن تُصلَّى الحاضرةُ في وقتها، فإذا صَلَّيتَ غيرها أخرجتها عن الوقت.
ثانيًا: أنك إذا قدَّمت الفائتة لم تستفدْ شيئًا، بل تضرَّرت؛ لأنَّك إذا قدمت الفائتة صارت كلتا الصَّلاتين قضاء، وإذا بدأت بالحاضرة صارت الحاضرة أداء والثانية قضاء، وهذا أولى بلا شَكٍّ([6])))اهـ.
العذر الرابع: أن يخش فوت وقت الاختيار للصلاة الحاضرة: فعليه أن يصلي الحاضرة قبل فوات وقت الاختيار؛ لأن تأخير الصلاة إلى وقت الضرورة محرم، كما تقدم.
قوله: (الثَّالِثُ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ): الشرط الثالث لصحة الصلاة ستر العورة؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ، قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ([7])».
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الحَارِثِ، قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ، فَقَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «مَا السُّرَى يَا جَابِرُ» فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ: «مَا هَذَا الِاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ»، قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ - يَعْنِي ضَاقَ - قَالَ: «فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ([8])».
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاتزار، وهو ستر أسفل الجسد.
وقد نُقل الإجماع على الصلاة لا تصح مِمَّنْ صلى عُريانًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ خَالِيًا، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَا بُدَّ مِنَ اللِّبَاسِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عُرْيَانَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اللِّبَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ([9])))اهـ.
وقال أيضًا: ((بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ؛ إنْ كَانَ ضَيِّقًا اتَّزَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ([10])))اهـ.
قوله: (وَيَجِبُ حَتَّى خَارِجُهَا): أي: ويجب ستر العورة حتى خارج الصلاة؛ وذلك لعموم الأحاديث الواردة في ذلك، كما سيأتي.
قوله: (وَفِي خَلْوَةٍ وَظُلْمَةٍ): ويجب سترها في خلوة وظلمة؛ ودليل ذلك حديث بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ»، فَقَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: «إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ»، قُلْتُ: وَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا، قَالَ: «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ([11])».
قوله: (بِمَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ): أي: يجب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة؛ فإن وصف لون البشرة لم يعتد به؛ لأنه غير ساتر([12]).
قال المرداوي رحمه الله: ((إذَا كَانَ يَصِفُ الْبَشَرَةَ لَا يَصِحُّ السَّتْرُ بِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيُبَيِّنَ مِنْ وَرَائِهِ الْجِلْدَ وَحُمْرَتَهُ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ يَسْتُرُ اللَّوْنَ، وَيَصِفُ الْخِلْقَةَ، لَمْ يَضُرَّ، قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَضُرُّ إذَا وَصَفَ التَّقَاطِيعَ، وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ نُصَّ عَلَيْهِ، لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ([13])))اهـ.
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684).
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (596)، ومسلم (631).
[3])) انظر: ((كشف القناع)) (1/ 260)، و((شرح منتهى الإرادات)) (1/ 147).
[4])) صحيح: أخرجه مسلم (126).
[5])) أخرجه ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (82).
[6])) ((الشرح الممتع)) (2/ 145).
[7])) أخرجه أحمد (25167)، وأبو داود (641)، والترمذي (377)، وقال: حسن، وابن ماجه (655)، وحسنه الألباني في ((الإرواء)) (196).
[8])) متفق عليه: أخرجه البخاري (361)، ومسلم (3010).
[9])) ((مجموع الفتاوى)) (22/ 117).
[10])) ((مجموع الفتاوى)) (116).
[11])) أخرجه أحمد (20034)، وأبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وقال: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وابن ماجه (1920)، والبخاري (1/ 64)، معلقًا، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (203)، ومحققو المسند.
[12])) ((العدة شرح العمدة)) (68).
[13])) ((الإنصاف)) (1/ 449).