معاصير" قراءة لغوية تأصيلية


بسم الله الرحمن الرحيم
معاصير
قراءة لغوية تأصيلية:
درج على ألسنة العوام في هذا العصر جمع الإعصار على "معاصير"، وهو وزن غير مألوف قياسياً وربما يرى البعض أن العامة خرقوا القاعدة فأتوا بما لا يغتفر!
وقد بحثت في دوافع هذا المسلك لدى أبناء العربية الذين ورثوا الفطرة النقية في صحرائهم بعيداً عن تأثير المدارس ومراكز العلم في بعض البلدان التي سبقتنا في الميدان التعليمي. وظهر لي أنه إرث يتناقلونه بسليقتهم وعفويتهم الممتدة من أسلافهم العرب الأقحاح، فهناك كلمات كثيرة في التراث العربي الخالد، جاءت تصاريفها وتوجيهاتها على غرار ما يفعله عوامنا اليوم، وهي تملأ المعاجم والمصادر التي تناولت كلام العرب وتصريفهم لكلماتهم وأحوالهم في تقليب تلك الكلمات. فهذه الميم قد صحبتهم كثيراً فألفوها إلى حد أنها لم تعد ذلك الدخيل في بعض الأوزان والتصاريف، حتى وإن لم تكن أصيلة في تركيب الكلمة. نجدهم أدرجوها في بعض الجموع الناشزة على القياس بطريقة ربما تدفع بعض الباحثين ودارسي اللغة إلى التشكيك في أصل المفرد لهذه الجموع ولكنه يقف مسلِّماً إذا وجدها متواترة لدى مؤصلي العلوم العربية بطريقتها الصحيحة ومن أمثلة ذلك:
*حُسْن، فجمعت على محاسن.
*قبح، على مقابح. وهو ما يستقبح من الأخلاق وغيرها.
*مدح بالفتح على ممادح.
*نَدْح بالفتح والضم على منادح، وهو الكثرة والسعة. ومنه اندياح دوائر الماء حينما يلقى فيه الحجر. وقيل إنه جمع مندوحة.
*فقر، على مفاقر. تقول أغنى الله مفاقره أي: وجوه فقره، قال النابغة:
فأهلي فداء لامرئ إن أتيتُه تقبل معروفي وأغنى المفاقرا
*لمحة، بفتح فسكون، على ملامح تقول في فلان لمحة من أبيه أي: شبه، وفيه ملامح من أخيه أي: مشابه.
*شَبَه، على مشابه، تقول في صديقي مشابِهُ من أبيه، كما تقول فيه شبه منه.
وغير هذه الكلمات، التي زيدت فيها الميم، كثيرة في كلام العرب، ولكنها تبقى في حيز الشذوذ الاستثنائي للمفردة التي خالفت نظائرها ومَشَابِهَهَا؛ ليبقى إطار القبول لما يكون مقيساً بشذوذه، فما وجدناه مماثلاً لها يحكم بصحته إن وافق المعايير ونصنفه في باب الفوائت والتواتر والرواية والقدم للكلمة يتيح لنا قياسها وتصنيفها بحكم توسطنا في الأجيال التي سبقتنا والتي تلحقنا فسابقونا روينا عنهم ولاحقونا يروون ما ننقله ونوثقه لهم بعد عرضه على المحكات المعيارية الدقيقة ومن أهم تلك المحكات الاحتضان البيئي لكل إقليم من أقاليم جزيرة العرب التي تزخر بمعين يتجدد من الثروة اللفظية الأصيلة العظيمة كما أشار بعض متتبعي اللهجة الدارجة هنا إلى أن راصدي اللغة يمكنهم استدراك ما فات منها ويعني لهجات الجزيرة العربية تحديداً؛ فهي التي نأت عن الدخلاء والخلطاء الذين لوثوا كثيراً من ألسنة العرب خارج الجزيرة.
والميم قد تأتي زيادة وبديلاً في الجمع كما أتت في غيره، وقد تأتي بديلة لحرف الهمزة كمجيئها في كلمات محدودة سمعت عن العرب؛ وأقول محدودة لأنها لم تسمع في نظائرها مع إمكان ذلك، ومن هذه الكلمات: أرجوحة وأراجيح وأقاليد فقد وردت عن العرب بلفظ: مرجوحة ومراجيح ومقاليد بإبدال الهمزة ميماً ولم نرها في نظائر هذه الكلمات كإبريق وأباريق وأباطيل وأساطير.
على قول من يرى أن مقاليد مفردها إقليد أو إقلاد كما في اللسان والتاج؛ خلافاً لمن يرى أن لا واحد لها كالأصمعي. ولكن الشواهد المستفيضة من القرآن الكريم وفي معاجمنا على أن الإقليد هو المفتاح وأن لفظة مقاليد هي المفاتيح في أحد وجوه تفسيرها فإنها تَرُدُّ بعض الأقوال وتعزز أخرى.
يقول الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز:"والإقلي د: المفتاح. والجمع المقاليد، كما قالوا: ملامح ومحاسن ومشابه ومذاكير. وقوله تعالى: "له مقاليد السموات والأرض" الزمر63.قال أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن السدي: أي خزائن السموات والأرض. وقال مجاهد بن جبر المكي: أي مفاتيح السماوات والأرض. واحدها إقليد. قال تبَّع:
وأقمنا به من الدهر سبتاً وجعلنا لبابه إقليدا
والإقليد معرب كليد. (ج4ص294.تحقيق محمد علي النجار.المكتبة العلمية. بيروت لبنان).
وأفاض الزبيدي في تفصيل اللفظة ويكفينا ما يحيط بعنق حاجتنا لنصل إلى أن في لغة العرب ما يجمع على مفاعيل ومفرده إفعال أو إفعيل. فمفرد معاصير التي يلهج بها الناس اليوم إعصار وهو فصيح شائع ومنه في القرآن الكريم إلا أنهم عاملوه بإبدال الهمزة ميماً مستساغة مقبولة مليحة في لهجتهم.
ولكن باستقصاء الدارج من اللغة اليوم بين العوام نراهم توسعوا في تصريفها جمعاً وإفراداً وإبدالاً فمما ساقه بعض الإخوة لنا من متتبعي اللهجات ما سمع في الحجاز من قول بني الحارث في مفردها معصار وتجمع على معاصير وفي تهامة جازان يقال معصار أيضاً. وفي وسط نجد تكثر في الأرياف وتتأصل في قبائل البوادي. أما في حواضرنا فيستخدمون كلمة معصير على قلة وربما أطلقوا عليها (عجة جن).
صالح بن إبراهيم العوض
الرس.الثلاثاء.6/1/1434هـ.