س15 : في ترجمة أحمد بن عبد الله بن يونس من تهذيب التهذيب: قال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة ، وليس بحجة. فما معنى ذلك ؟ وما تأثيره على رواياته قبولاً وردًا ؟
جـ15 : أما قول عثمان بن أبى شيبة هذا فقد قاله عن ثلاثة من الرواة ، ونقله عنه أبو حفص بن شاهين في (( تاريخ أسماء الثقات )) هكذا :
(1) أحمد بن عبد الله بن يونس .كان ثقة ليس بحجة قاله عثمان بن أبي شيبة .
(2) أشعث بن سوار . سئل عثمان بن أبي شيبة عن أشعث بن سوار فقال : ثقة صدوق ، قيل : هو حجة ؟ ، قال : أما حجة فلا .
(3) فضيل بن عياض . قال عثمان بن أبى شيبة : كان ثقة صدوقا ليس بحجة .
والنظر في معنى قوله هذا عن الثلاثة المذكورين ، وفيهم الثقتان النبيلان : فضيل وأحمد ، يدور على ثلاثة أنحاء .
[ أولاً ] لا ينبغي أن يؤخذ من تأويل هذا المصطلح توهين الإمام الثبت المتقن المأمون أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعى الكوفي شيخ الإسلام . وإليك ما قاله الحافظ الذهبي رداً على قول عثمان بن أبى شيبة عنه : (( ثقة وليس بحجة )) :
قال الحافظ (( ميزان الاعتدال ))(8/34) : (( اليربوعي أوثق من عثمان . قال فيه أحمد بن حنبل : شيخ الإسلام . وقال أبو حاتم : كان ثقة متقناً . وقال النسائي : ثقة . وقال ابن سعد والعجلي : ثقة صدوق صاحب سنة . وقال الخليلي : ثقة متفق عليه . وقال ابن قانع : ثقة مأمون . وذكره ابن حبان في الثقات )) أهـ .
قلت : وقد احتفى البخاري ومسلم باليربوعي ، وهو في الطبقة الوسطى من شيوخهما ، فأخرج له البخاري في (( صحيحه )) سبعين حديثاً ، وأخرج له مسلم في (( صحيحه )) أربعة وخمسين حديثاً . وهو في الكوفيين كمسدد بن مسرهد في البصريين ، إلا أن مسدداً أكثر منه حديثاً ، ولذا أخرج له البخاري : ثلاثمائة واثنين وتسعين حديثاً ، فهو رأس المكثرين من شيوخ البخاري . وأما اليربوعي فكان ممن يقيم اللفظ ولا يروى بالمعنى ، وقد جهدت أن أجد لليربوعي وهماُ أو خطأً ، فلم أقف عليه .
[ ثانياً ] تأويل قولهم فلان حجَّة . قد بان لي من معاني الحجَّة عندهم .
(1) الذي ثبتت إمامته ، وذاعت شهرته ، وعرف فضله . وهذا معنىً واسع ، ولكنه غير شائع الاستعمال ، وربما يستعمله بعض المتساهلين من أئمة التعديل والتزكية ، كابن سعد . وهو واقع بكثرة فى تراجم المتأخرين كالحافظ الذهبي في كتابيه (( سير الأعلام )) و (( تذكرة الحفاظ )) . قال ابن سعد : كان الحسن البصري جامعا عالما رفيعا ثقة حجة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا . وقال :كان أيوب السختيانى ثقة ثبتا في الحديث جامعا كثير العلم حجة عدلا . وقال الذهبي : القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق الإمام القدوة الحافظ الحجة عالم وقته بالمدينة . وقال : عبد الرحمن بن أبي نعم الإمام الحجة القدوة الرباني أبو الحكم البجلي الكوفي . وهذا أكثر من أن يحصى .
(2) الحافظ الضابط المتقن . وهذا أشيع معانيه ، وربما اقتصر عليه الأكثر . سئل يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى فقال : ثقة وليس بحجة . وأصل ذلك أنه سئل عنه وعن موسى بن عبيدة الربذي : أيهما أحب إليك ؟ ، فقال هذا القول ، وإنما ذهب إلى أن ابن إسحاق أمثل وأوثق من موسى بن عبيدة الربذي ، وإن لم يكن ضابطاً متقناً كمالك وعبيد الله بن عمر في المدنيين
(3) الذي يُرجع إليه عند الاختلاف ويؤخذ بقوله ، فهو كالقائم مقام الدليل والبرهان ، أو الذي تدفع به الخصومة . قال أبو زرعة الدمشقي قلت ليحيى بن معين وذكرت له الحجة ، فقلت له : محمد بن إسحاق منهم ؟ ، فقال : كان ثقة ، إنما الحجة عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وذكر قوما آخرين . وهذا من ألطف المعاني وأخفاها ، وإنما يستعمله المتشددون أمثال : عبد الرحمن بن مهدى ، ويحيى بن سعيدٍ القطان ، وابن معين ، وأبى حاتم الرازي . وعليه يتنزل قول عثمان بن أبى شيبة ، ومن طالع أحكامه على الرجال حكم من غير تردد أنه في عدادهم ، وإن وثق بعض الضعفاء
(4) أن الحجة بالمعنى السابق ، ولكن مقروناً براوٍ ما أكثر الثقة ملازمته والأخذ عنه ، فكان الأضبط والأوثق والأحفظ لحديثه دون سائر أصحابه . وذلك شبيهٌ بقولهم :
• الثوري حجة في الأعمش على سائر أصحابه .
• مالك حجة في الزهري على سائر أصحابه .
• ابن عيينة حجة في عمرو بن دينار على سائر أصحابه .
• حماد بن سلمة حجة في ثابت البناني على سائر أصحابه.
• شعبة حجة في قتادة على سائر أصحابه .
• إسرائيل حجة في أبى إسحاق على سائر أصحابه .
• الأوزاعي حجة في يحيى بن أبى كثير على سائر أصحابه .
قال أبو حاتم الرازي : حماد بن سلمة في ثابتٍ وعلي بن زيد أحبّ إليَّ من همام ، وهو
أضبط الناس وأعلمهم بحديثهما ، بيَّن خطأ الناس في حديثهما . وقال يحيى بن معين :
من خالف حماد بن سلمة في ثابتٍ فالقول قول حماد ، وحماد أعلم الناس بثابتٍ .
ونزيدك إيضاحاً وبياناً ، لهذا المعنى ، بذكر هذا المثال :
قال أبو داود (5125) : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لأُحِـبُّ هَـذَا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَـلَّمَ : (( أَعْلَمْـتَهُ ؟ )) ، قَالَ : لا ، قَالَ : (( أَعْلِمْهُ )) ، قَالَ فَلَحِقَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللهِ ، فَقَالَ : أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ .وأخرجه كذلك أحمد (3/156،150) ، وأبو القاسم البغوى (( مسند ابن الجعد )) (3193) ، والحاكم (4/171) ، والبيهقى (( شعب الإيمان )) (6/488/9006) من طرق عن مبارك بن فضالة بإسناده نحوه .
وتابعه عن ثابت البناني : الحسين بن واقد المروزى ، وعبد الله بن الزبير الباهلي ، وعمارة ابن زاذان الصيدلاني .
فقد أخرجه أحمد (3/140) ، والنسائي (( الكبرى )) (6/54/10010) و (( اليوم والليلة )) (182) ، وابن حبان (571) ، والضياء (( المختارة )) (5/17/1619،1618) أربعتهم عن الحسين بن واقد ، وأبو يعلى (6/162/3432) ، وابن عدى (( الكامل ))(4/175) كلاهما عن عبد الله بن الزبير الباهلي ، والبخاري (( التاريـخ الكبير )) (2/318/2607) ، وابن أبى الدنـيا (( الإخوان )) (71) كلاهما عن عمارة بن زاذان ، ثلاثتهم عن ثابت البناني عن أنس بنحو حديث مبارك بن فضالة .
قـلتُ : هكذا رواه هؤلاء الأربعة : المبارك والحسين والباهلي وعمارة ، فقالوا (( عن ثابت عن أنس )) ، وهؤلاء الرواة يشدّ بعضُهم أزر بعضٍ ، إذ لا يخلو واحدٌ منهم من مقالٍ ، وأمثلهم المبارك بن فضالة ، لكنه مدلس ، وقد صرّح هاهنا بالسماع من ثابت البناني ، ولهذا صحح حديثه الأئمة : ابن حبان ، والحاكم ، والضياء المقدسي وغيرهم .
وقد خالف الأربعة مجتمعين : حماد بن سلمة ، والحديث له دونهم ، فهو أعلم وأحفظ وأضبط الناس لحديث ثابت البناني . وكيف لا ، وهو ربيبه ! . قال يحيى بن معين : من خالف حماد بن سلمة في ثابتٍ فالقول قول حماد ، وحماد أعلم الناس بثابتٍ . وقال أبو حاتم الرازي : حماد بن سلمة في ثابتٍ وعلي بن زيد أحبّ إليَّ من همام ، وهو أضبط الناس وأعلمهم بحديثهما ، بيَّن خطأ الناس في حديثهما .
واختلف أصحاب حماد بن سلمة على هذا الحديث على أربع وجوه :
[ الأول ] رواه أثبت أصحابه وأحفظهم : سليمان بن حرب عنه (( عن ثابت عن حبيب ابن سبيعة عن الحارث عن رجل من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) .
وتابعه على هذا الوجه : الحسن بن موسى ، وحجاج بن منهال ، إلا أنهما قالا (( ابن أبى سبيعة الضبعى )) . وهذا الوجه أصحها ، والقول قول سليمان بن حرب .
أخرجه البخاري (( التاريخ الكبير ))(2/318/2607) عن سليمان بن حرب ، والنسائي (( السنن الكبرى )) (6/54/10012،10011) و (( اليوم والليلة ))(184،183) عن الحسن بن موسى وحجاج بن منهال ، وعبد بن حميد (( المنتخب )) (444) عن الحسن بن موسى ، ثلاثتهم قالوا : حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن حبيب ـ قال سليمان بن حرب : ابن سبيعة ، وقال الآخران : ابن أبي سبيعة الضبعي ـ عن الحارث أن رجـلاً حدَّثه : أنَّه كَـانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لأُحِبُّ هَذَا الرجلَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَعْلَمْتَهُ )) ، قَالَ : لا ، قَالَ : (( فَاذْهَبْ إلِيهِ ، فَأَعْلِمْهُ )) ، قَالَ : فَلَحِقَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللهِ ، فَقَالَ : أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ . قال أبو عبد الرحمن النسائي : (( وهذا الصواب عندنا ، وحديث حسين بن واقد ـ يعنى ومن تابعه ـ خطأ ، وحماد بن سلمة أثبت وأعلم بحديث ثابت البنانى من حسين بن واقد والله أعلم )) .
وقال أبو الحسن الدارقطني : (( والقول قول حماد )) .
[ الثاني ] قال موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن ثابت عن حبيب بن سبيعة عن رجلٍ حدثه أنه كان إلى جنب النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فمر به رجل . هكذا أسقط من إسناده الحارث ، ولم يذكره .
أخرجه هكذا البخاري (( التاريخ )) (2/318/2607) قال : قال موسى بن إسماعيل به .
[ الثالث ] قال عبد الله بن المبارك عن حماد عن ثابت عن حبيـب بن ضبيعة أن رجلاً أتى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هكذا أرسله ، وسمَّى التابعي (( ابن ضبيعة )) .
أخـرجه هكذا البخاري (( التـاريخ )) (2/318) عن بشر بـن محمد المروزى ، وابن أبى الدنيا (( الأخوان )) (70) عن أحمد بن جميل المروزى ، كلاهما عن ابن المبارك به .
[ الرابع ] وشذا مؤمل بن إسماعيل ، فرواه عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ، كرواية المبارك بن فضالة ومن تابعه . وزاد في متنه (( فَأَخْبِرْهُ تَثْبُتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَكُمَا )) .
أخرجه أحمد (3/241) ، ومن طريقه الضياء (( المختارة )) (5/78/1703) قال : حدثنا مؤمل ثنا حماد ثنا ثابت عن أنس به بهذه الزيادة .
والخلاصـة ، فالحديث ثابت معروف من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن حبيب بن سبيعة عن الحارث عن رجل من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، والحكم فيه لحماد على هذا الجمع الكثير ، لا لهم ، لأنه الحجة في حديث ثابت .
[ ثالثاً ] الجمع والتفريق بين ثقة وحجة . إذا بانت لك معاني الحجة في كلامهم ، فلننظر الآن في الفرق بينه وبين الثقة . ولنضرب له موعداً آخر ، فإن الكلام عليه طويل الذيل بعيد المرامي . ونفعني الله وإياكم بما علمنا . إنه نعم المولى ونعم النصير .