فان كلمتنا في هذه الساعة المباركة تدور حول موضوع بعنوان : ( كيف نتعامل مع أهل الكتاب اليهود والنصارى ).
أن القاعدة في كيفية التعامل مع أهل الكتاب هي قول الله تعالى : (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). نحن أمام قضيتين الأولى تتعلق بشعورنا وأحاسيسنا تجاه الكافر والثانية تتعلق بتعاملنا مع الكفار. فأما المشاعر فإن شعور المسلم تجاه الكافر تقوم على البغض والكراهية لكفره . وأما عن التعامل: فالكفار صنفان: الكافر الحربي المعادي ، والكافر المسالم .فالمعادي يعادى والمسالم يسالم ويحسن اليه. ونحن نلتزم بتلك الآداب لا حُبًّا للكفار المسالمين، ولكن إقامةً للعدل والإحسان الذي أمرنا به رب العالمين .ومن صور التعامل بين المسلم والكافر المسالم:
1-التحية والسلام : مَعْلُومٌ أنَّ لَفْظَةَ السَّلاَمِ الشَّرْعِيَّةِ هي (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ)، وهي تَحْتَوِي عَلَى اسْمٍ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى، ودُعَاءٍ بالسَّلاَمَةِ والرَّحْمَةِ والبَرَكَةِ، ومُتَرَتِّبٌ عَلَى قَوْلِهَا الثَّوَابُ للمُسَلِّمِ والمُسَلَّمِ عَلَيْهِ، وهي لَفْظَةٌ خَاصَّةٌ بالمُسْلِمِينَ فَقَط كَمَا ثَبَتَ، وبالتَّالِي لا يَجُوزُ قَوْلُهَا لغَيْرِ المُسْلِمِ، لأنَّهُ لا يَجُوزُ الدُّعَاءُ للكَافِرِ بالرَّحْمَةِ، ولَكِنْ يَجُوزُ الدُّعَاءُ لَهُ بالهِدَايَةِ،والأصل في جواز التحية والسلام عموماً قوله تعالى:( وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) فإذا سلم الكتابي فيرُدّ عليه بالمثل ولا يزيد، فان قال "السلام عليكم" أو " السلام عليكم ورحمة الله" فيرد عليه: وعليك السلام . ولا مَانِعَ مِنْ أنْ يُقَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (كَيْفَ حَالُكَ وكَيْفَ أوْلاَدُكَ)، ولاسِيَّمَا إذا اقْتَضَتِ المَصْلَحَةُ الإسْلاَمِيَّةُ ذَلِكَ كَتَرْغِيبِهِ في الإسْلاَمِ وقد وَرَدَ في الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الإمَامُ مُسْلِمُ في صَحِيحِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ (لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ ولا النَّصَارَى بالسَّلاَمِ).فهذ ا الحديث جعل الكثير من العلماء يحرم البدء بالسلام عليهم ولكننا نقول هذا خاص في حادثة معينة وهي وقت اعلان الحرب.
2-الأعياد : فلا بأس بالتهنئة بالمناسبات الاجتماعية والإنسانية كولادة مولود أو ترقي في وظيفة أو قدوم من سفر ولاسِيَّمَا إذا اقْتَضَتِ المَصْلَحَةُ الإسْلاَمِيَّةُ ذَلِكَ كَتَرْغِيبِهِ في الإسْلاَمِ. وتحرم تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم الدينية مثل الكريسماس، وعيد الفصح وعيد بعض القديسين وعيد الشكر . ويحرم حضور الاحتفال بهذه الأعياد أو المشاركة فيها بالمال أو التحضير أو الزينة أو العون أو مجرد الحضور، والدليل قوله تعالى واصفاً عباد الرحمن :(والذين لا يشهدون الزور) قال مجاهد والضحاك وابن عباس:اعياد المشركين.والبعض يَقُولُ: كَيْفَ لا نهنئهم باعيادهم وهُمْ لا يَتْرُكُونَ مُنَاسَبَةً إلاَّ وهَنَّئُونَا بِهَا؟ لاَ يَجُوزُ أنْ نُهَنِّئَهُمْ بأعْيَادِهِمْ لوُجُودِ الفَارِقِ، فَأعْيَادُنَا حَقٌّ مِنْ دِينِنَا الحَقِّ، بخِلاَفِ أعْيَادِهِمُ البَاطِلَةِ الَّتي هي مِنْ دِينِهِمُ البَاطِلِ، فَإنْ هَنَّئُونَا عَلَى الحَقِّ فَلَنْ نُهَنِّئَهُم عَلَى البَاطِلِ، ثُمَّ إنَّ أعْيَادَهُمْ لا تَنْفَكُّ عَنِ المَعْصِيَةِ والمُنْكَرِ وأعْظَمُ ذَلِكَ تَعْظِيمُهُمْ للصَّلِيبِ وإشْرَاكُهُمْ باللهِ تَعَالَى، وهَلْ هُنَاكَ شِرْكٌ أعْظَمُ مِنْ دَعْوَتِهِمْ لعِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأنَّهُ إلَهٌ أو ابْنُ إلَهٍ ، إضَافَةً إلى مَا يَقَعُ في احْتِفَالاَتِهِ مْ بأعْيَادِهِمْ مِنْ هَتْكٍ للأعْرَاضِ واقْتِرَافٍ للفَوَاحِشِ وشُرْبٍ للمُسْكِرَاتِ ولَهْوٍ ومُجُونٍ،مِمَّا هُوَ مُوجِبٌ لسَخَطِ اللهِ ومَقْتِهِ، فَهَلْ يَلِيقُ بالمُسْلِمِ المُوَحِّدِ باللهِ رَبِّ العَالَمِينَ أنْ يُشَارِكَ أو يُهَنِّئَ هَؤُلاَءِ بهذه المُنَاسَبَةِ؟ يقول ابن القيم:(وأمَّا التَّهْنِئَةُ بشَعَائِرِ الكُفْرِ المُخْتَصَّةِ بِهِ فَحَرَامٌ بالاتِّفَاقِ، مِثْلَ أنْ يُهَنِّئَهُمْ بأعْيَادِهِمْ وصَوْمِهِمْ، فَيَقُولُ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، أو تَهْنَأُ بهذا العِيدِ، ونَحْوِهِ، فهذا إنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِنَ الكُفْرِ فَهُوَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ، وهُوَ بمَنْزِلَةِ أنْ تُهَنِّئَهُ بسُجُودِهِ للصَّلِيبِ،بَلْ ذَلِكَ أعْظَمُ إثْمًا عِنْدَ اللهِ، وأشَدُّ مَقْتًا مِنَ التَّهْنِئَةِ بشُرْبِ الخَمْرِ وقَتْلِ النَّفْسِ وارْتِكَابِ الفَرْجِ الحَرَامِ ونَحْوِهِ، وكَثِيرٌ مِمَّنْ لا قَدْرَ للدِّينِ عِنْدَهُ يَقَعُ في ذَلِكَ، ولا يَدْرِي قُبْحَ مَا فَعَلَ، فَمَنْ هَنَّأَ عَبْدًا بمَعْصِيَةٍ أو بِدْعَةٍ أو كُفْرٍ فَقَدْ تَعَرَّضَ لمَقْتِ اللهِ وسَخَطِهِ).
3-عيادة مريضهم ورقيتهم: فعن أنس قال :كان غلام يهودي يخدم النبي فمرض فأتاه النبي ‏يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع ‏أبا القاسم ‏‏ ‏فأسلم فخرج النبي ‏وهو يقول : "الحمد لله الذي أنقذه من النار. وفي الصحيحين أن النبي عاد عمه أبا طالب لما حضرته الوفاه، ودعاه إلى الإسلام. أن أبا الدرداء عاد جاراً له يهودياً. ويجوز رقيتهم بالقرآن ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري لما نزل هو ومن معه من الصحابة على حي من أحياء العرب فأبوا أن يضيفوهم ، ثم لدغ سيد ذلك الحي فالتمسوا العلاج عند الصحابة فرقى أبو سعيد سيد الحي الملدوغ بسورة الفاتحة فشفي . وأقرهم النبي على ذلك وقال " وما يدريك أنها رقية.
4-حضور جنائزهم وتعزيتهم: يجوز تعزية أهل الكتاب سواء أكان قريبا أو صديقا أو غريبا لأنها من باب حسن المعاملة والبر، ولأنها تقتضيها ضرورة المجاورة. وقالوا: يقال: (أخلف الله عليك) و أحسن الله عزاءكم، و لا يدعو له بالأجر، و لا لميته
بالر حَّمة، لأن هَّما ليسا من أهل الأجر والرحمة .قال النبي ): استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي (أما التشييع فلا نعرف عن النبي ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه شيع جنازة أحد من أهل الذمة قلا يجوز حمل النعش ولا الوقوف على قبره وقد أجاز بعض أهل العلم تشييع جنازة ذوي القربى من الكفار، مستدلاً بما ورد عن أبي وائل قال: ماتت أمي وهي نصرانية، فأتيت عمر فذكرت له، فقال: اركب دابة وسر أمامها. ولا بجوز حضور الصلاة الخاصة بهم . قال الله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ). فقد نهى الله الرسول أن يقوم على قبر عبد الله بن أُبَي بن سلول ، وعلل ذلك بكفره . وأما إذا لم يوجد منهم من يدفنه دفنه المسلمون كما فعل النبي بقتلى بدر، وبعمه أبي طالب لما توفي قال لعلي : ( اذهب فواره(.
5-أكل طعامهم : يحل للمسلم أكل طعام وذبائح أهل الكتاب مما هو جائز لنا كالبقر والدجاج ويحرم كل ما هو حرام في ديننا كالخنزير والخمر والدليل قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فما ذبحوه بطريقة الذبح المعروفة التي هي قطع الودجين والبلعوم، فهو حل لنا، وما أزهقوا روحه بطريقة أخرى كالصعق الكهربائي والخنق ونحو ذلك، فهو ميتة لا يحل أكله. عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:( أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ فَأَجَابَهُ) . ما أذيب من الشحم والإلية وتغيرت رائحته .
6-مناكحتهم : يحرم على المسلمة أن تتزوج من غير مسلم كتابي يهودي أو نصراني أو وثني أو ملحد ، بدليل قوله تعالى :( وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) ، كذلك المسلم لا يحل له نكاح مشركة وثنية لقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ(ولقوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ( . وقد طلق عمر، رضى الله عنه، امرأتين له كانتا مشركتين تعبدان الاصنام ، لما نزلت هذه الآية. أما المسلم فيجوز له الزواج من كتابية يهودية أو نصرانية وقد تزوج عثمان بن عفان نائلة الكلبية النصرانية ، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية ، وتزوج حذيفة يهودية .واشترط كثير من العلماء شروطا منها : التأكد من كونها كتابية تؤمن بدين سماوي وليست ملحدة . أن تكون مُحصَنة غير مسافحة : أي عفيفة لم تجاهر بالزنا .لقول الله تعالى (وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) أن يأمن على نفسه من تغيير دينه وأن تكون الولاية على الاولاد له وليس لزوجته لهذا كره اهل العلم زواج الكتابية في بلادها .
والحكمة في جواز زواج المسلم من كتابية وتحريم زواج المسلمة من كتابي وغير كتابي ؛ أن الإسلام يتشوّف إلى إسلام الناس كافّـة ، ويُرغِّب في إدخال الناس في دِين الله ، ويحرص على نجاتهم من النار ، ولما كانت المرأة غالبا تتبع زوجها وتتأثّر به ، أُذِن في نكاح الكتابية رغبة في إسلامها ، وهذا مُشاهد حتى زماننا هذا في البلاد الأوربية وغيرها .وأما المسلمة فإنها إذا تزوّجت كافر كان ذلك من باب إذلال المسلمة حيث جُعِلتْ الولاية عليها لكافر ، ثم إنه يُخشى من تأثّر المرأة في بيئة الزوج فترتدّ عن دينها .
7-الاهداء : يجوز الاهداء من المسلم الى الكتابي كما يجوز قبول المسلم للهدية منه : حيث أنس الصحيح "أنّ يهودية أهدت لرسول الله شاة مسمومة"وأهدى المقوقس ملك الإسكندرية للنبي مارية القبطية التي ولدت له ابنه إبراهيم. وقد جعل الشارع الحكيم أحد مصارف الزكاة دفعها إلى المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وهي فريضة واجبة، فكيف بالهدية المندوبة في أصلها؟
8-يجوز البيع والشراء مع غير المسلمين، ومعاملة الكفَّار جائزة، إلاّ بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين فعن عائشة قالت: توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ . يجوز للمسلم أن يكون شريكًا للنصراني في التجارة بشرط أن التعامل يجري على وفق قواعد الشريعة الإسلامية وضوابطها فيما يحل ويحرم من المعاملات .
9- زيارتهم والصدقة عليهم : عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدوا رسول الله ومُدتِهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله ، فقالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ((نعم، صليها) . و موقف أسماء من أمها، دليل على ما في قلبها من ورع، فهي لم تتوقف عن مقابلة أمها عقوقاً ولكن تمهلت حتى تعرف حكم الله ورسوله، لأن المؤمن لا يقدم هوى النفس على حكم الشرع، حتى مع أحب الناس إليه . كما حدث مع الغلام الذي كان يخدم الرسول فزيارة الرسول له، ودعوته إلى الإسلام أنقذته من النار.
ومن الإحسان: الإحسان إلى الحربِي الأسير قال تعالى: ﴿ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا﴾.