الحمد لله وحده، أما بعد، فيظن كثير من المسلمين أن "الانفجار الكبير" Big Bang يعد حقيقة علمية قطعية، وأنه يعتبر مغنما من مغانم العلم الحديث بالنسبة لنا معاشر الموحدين، على اعتبار أنه قد "أحرج" الملاحدة المعاصرين، لكفايته في "إثبات" حدوث العالم وهدم النحلة الدهرية جملة واحدة. وهذا في الحقيقة تصور قاصر للغاية وغير صحيح سواء لمذاهب الدهرية وفلسفاتهم (قديما وحديثا) أو لنموذج الانفجار الكبير وما يقوم عليه ذلك النموذج من مسلمات ميتافزيقية ومعرفية. وقد أسهبت في بيان هذا الخلل في التصور في "آلة الموحدين"، ثم رأيت أن أوجز القضية في مقال موجز (نسبيا)، بالنظر إلى خطورتها على اعتقاد المسلمين فيما يتعلق بجملة من القضايا الغيبية التي لا طريق لمعرفتها في الحقيقة إلا الوحي الثابت الصحيح. فمع أن كثيرا من المسلمين يحسبون (تبعا لبعض اللاهوتيين النصارى المعاصرين) أن الملحد يلزمه القول بحدوث العالم والزوال عن دهريته بمجرد التسليم بقبول نموذج الانفجار الكبير، إلا أن الواقع على خلاف ذلك. بل إن نموذج الانفجار الكبير نفسه (فضلا عن غيره من نماذج تاريخ الكون في علم الكونيات) ما تأسس إلا على أصول النحلة الدهرية القديمة ومسلماتها الميتافزيقية كما سنبين بحول الله تعالى وقوته.
فبداية، دعنا نقرر أن الدهرية المعاصرة قد اتخذت صورا تختلف (في تفاصيل المعتقد) عن تلك النحلة القديمة القائلة بأن العالم كان ولم يزل على ما هو عليه الآن من الأزل وإلى الأبد، ولكنها – مع ذلك – لم تزل متمسكة بأزلية النظام الكوني على صورة من الصور. فهي على أربعة أصناف فيما بلغه استقرائي الناقص، أصنفها كالتالي:
- دهرية العدم (ويمكن تسميتهم بالدهريين القانونيين)، وهم القائلون بأزلية بعض القوانين الفيزيائية والرياضية (لا سيما الاحتمالية) التي كانت تحكم العدم المطلق قبل فردية الانفجار المزعوم، والعدم المطلق هذا يعني عدم المادة والطاقة والزمان والمكان (الذي يعتقدون وجوده كشيء واقعي) Absolute Nothingness. فلا تسأل كيف يعقل أن توجد قوانين سببية كلية (كانت سابقة على حدث الانفجار ومن ثم كانت مفسرة لوقوعه) دون أن يوجد شيء تجري عليه تلك القوانين!
- دهرية الجوهر، وهم القائلون بالعدم الفيزيائي Physical Nothing (خلافا للعدم المطلق) قبل الانفجار، (مع كونه بالبداهة خاضعا لجملة من القوانين التي كانت تحكمه وأدت به إلى وقوع فردية الانفجار والتمدد)، مع أزلية بعض المادة أو الطاقة أو ما يشبههما على المستوى الكماتي بصورة ما أو بأخرى)، وهو الاعتقاد الأكثر شيوعا بين الطبيعيين المعاصرين.
- دهرية الكون المتقلب (ويمكن تسميتهم بالدهريين التقلبيين)، الذين يعتقدون أن العالم كان ولا يزال يبدأ من نقطة تتممد (في حدث الانفجار) ثم يمضي بتمدده إلى لحظة ينقلب فيها إلى الانكماش رجوعا إلى نفس تلك النقطة متناهية الصغر، ثم يعاود الكرة ليتمدد من جديد ثم ينكمش فيما يعرف باسم Big Crunch، وهكذا في تقلب دائم بلا بداية ولا نهاية، في إطار ما يعرف باسم نظرية الكون المتقلب أو المتردد Oscillating Universe أو النموذج الدوري Cyclic Model (وهذه الطوائف الثلاثة كلها يمكن جمعها تحت اسم "الدهريين الانفجاريين"، أي القائلين بنموذج الانفجار الكبير). (1)
- دهرية الكون الثابت، وهم القائلون بنموذج الكون الثابت Steady-State Universe (على قلتهم)، ومن شاكلهم ممن يقولون بنماذج أخرى لتاريخ الكون بخلاف نموذج التضخم المفاجئ أو الانفجار الكبير. وهؤلاء باقون على ما كان عليه الدهرية القدماء إجمالا من اعتقاد قدم العالم، وإن اختلفت صورة العالم القديم في تصورهم عما كانت عليه عند أسلافهم.
هذه الطوائف الأربعة أزعم أنه لا يخرج عنها فيزيائي واحد من الطبيعيين الغربيين المعاصرين، وقد تشكلت دهريتهم على صور ودرجات متفاوتة في ضوء النظريات المعاصرة في علم الكونيات، ليجمعها كلها قاسم مشترك أعظم كما ترى، ألا وهو اعتقادهم بأزلية "القانون الطبيعي" Natural Law إجمالا، بمعنى أن ثمة قوانين طبيعية معينة كانت جارية من الأزل وستظل تجري إلى الأبد ولابد، وهو ما يبقيهم على الركن الركين للمعتقد الدهري: تسلسل الأسباب (بصورة ما أو بأخرى) من جنس ما يجري في العالم المشاهد، من الأزل وإلى الأبد بلا سبب غيبي أول.
وخلافا لما يظنه كثير من المسلمين وغيرهم من أهل الملل التي تدين بالخلق والمخلوقية، فهؤلاء الدهرية المعاصرون لم "يتحايلوا" على المعتقد الدهري بهذا الاعتقاد الجديد تبعا لما سببه لهم نموذج الانفجار الكبير من "إحراج"! بمعنى أنهم لم "يضطروا" للشهادة بأن الكون حادث (غير أزلي)، بل لم يضطروا للزوال عن دهريتهم في الحقيقة كما يظنه كثير من إخواننا، وإنما التزموا – بدهريتهم المعاصرة - ما يقتضيه التسليم بصحة ذلك النموذج الكوزمولوجي نفسه (بل أي نموذج طبيعي آخر في تصور نشأة الكون، وليس الانفجار الكبير على وجه الخصوص). ذلك أن مجرد القول بإمكان بناء نموذج "طبيعي" لتصور نشأة الكون وما جرى في سياقها من أحداث تفصيلية وما جرت عليه تلك الأحداث من تتابع للأسباب والمسببات، يستلزم تمديد القانون الطبيعي الجاري (كله أو بعضه) إلى ما قبل تلك الأحداث نفسها، حتى يصح – من حيث المبدأ المعرفي - إخضاعها إلى منهج القياس والاستقراء الطبيعي الذي يقال له "الطريقة العلمية" Scientific Method ، ومن ثم الوصول إلى تصورها "طبيعيا" باستصحاب مبدأ الاستمرارية أو الثابتية Uniformity كمقدمة مبطنة Implicit Premise، وإلا فلو قال أحدهم بأن ذلك الحدث لا يمكن أن يكون قد خضع لشيء مما يمكننا تصوره "طبيعيا" من القوانين السببية في ضوء معرفتنا الحالية بالنظام الكوني، وإنما خضع – بالضرورة - لأسباب لا قياس لها على شيء مما هو جار في هذا العالم من نواميس (وهو الحق الذي يقتضيه المنطق الفطري وتشهد به البداهة الأولى كما سيأتي)، لقطع على نفسه طريق المعرفة "الطبيعية" ولحكم بامتناع بناء أي نموذج نظري في تلك القضية باستعمال تلك الأدوات من الأساس، وهو ما لا يمكن أن نتوقع حصوله عند أحد من الطبيعيين أبدا في يوم من الأيام، لاعتقادهم كفاية الطريقة العلمية الطبيعية في تحصيل المعرفة بمسألتي الأصل والمنشأ من جهة والمصير والمآل من الجهة الأخرى! فهم حريصون على حشر العلم الطبيعي وأدواته في سائر الأسئلة الكبرى التي كان العقلاء ولا يزالون يلتمسون جوابها من طريق الوحي والنبوات، لأنهم لو لم يفعلوا – على أي صورة من صور التنطع الفلسفي الفجّ الذي نعهده من الملاحدة عموما - للزمهم أن يشهدوا على نحلتهم بالخواء والفقر والجهالة!
فالقول بأن قصة النشأة الأولى لهذا العالم كانت خاضعة لنظام سببي "طبيعي" كان جاريا على سائر الموجودات فيما قبلها (وهي تلك المقدمة المعرفية الضرورية التي بها يستجاز نمذجة تلك القصة وتوصيف أسبابها باستعمال مفردات النظام الطبيعي الحالي)، إنما يعني تمديد قاعدة الاستمرارية في النظم الطبيعية الحالية إلى الأزل في الماضي بلا بداية، وإلى ما لا نهاية له من الامتداد في جميع الجهات مكانيا! وإن افتُرضت لتلك النظم بداية في الماضي لزم أن تكون أسبابها السابقة عليها هي الأخرى بدورها من جنس ما يمكننا تحليله طبيعيا وقياسه طبيعيا. وهذا التصور في إعمال مبدأ الاستمرارية الطبيعية هو عين معتقد الدهرية في تسلسل الأسباب كما بينا!
فالقانونية الكونية نفسها لا فرق في جريانها بين الحدث الأول وغيره من أحداث العالم عند التدبر، لدخول جميع الحوادث عندهم – من الأزل وإلى الأبد - تحت تلك النظامية السببية المادية المحسوسة (بالفعل) أو الممكن إخضاعها للحس من حيث المبدأ (بالقوة)! فلا شيء في نموذج الانفجار أو غيره من نماذج تفسير وتوصيف "النشأة" (طبيعيا) يقتضي أي معاملة خاصة من الناحية المعرفية فيما يتعلق بالتعليل الأول إثباتا أو نفيا، وذلك لمجرد حقيقة أنه "نموذج طبيعي" Scientific Model! فحدث النشأة عند علماء الكونيات إنما هو من جهة النوع: "حدث طبيعي" كأي حدث من الأحداث الجارية الآن في كوننا، ليس تعسفا منهم في فهم مقتضياته، وإنما إعمالا للمنطق الطبيعي المجرد Scientific Logic في تصور أي حدث مما يوصف بأنه "طبيعي"! ذلك أنه حتى يصح للعلم الطبيعي أن يكون طريقا لتصور أي حدث "أ" وتوصيفه قياسيا واستقرائيا، فإنه يلزم استصحاب الاعتقاد بكون "أ" هذا مسبوقا ولابد بأحداث من جنس ما يمكننا رصده وقياسه وتصوره فزيقيا (من حيث المبدأ، أو بالقوة القريبة)، ومن ثم تصور الكيفية التي كانت بها تلك الأحداث سببا في وقوع "أ" هذا على وفق قانون كوني يمكننا طرده في جهة الماضي إلى ما قبل "أ"!
وعليه، فإن جعلنا "أ" هذا هو حدث تكون الأرض على هذه الهيئة التي نعرفها بها الآن (مثلا)، وأردنا تفسير "أ" وتصور كيفيته وأسبابه طبيعيا (أي بالقياس والاستقراء الطبيعي: Scientific Method)، لزمنا تصور وقوع جملة من الأحداث "الطبيعية" الأخرى (أي التي يمكن تفكيكيها إلى أسباب ومسببات من جنس ما يمكننا أن نشاهده الآن في هذا العالم) الخاضعة لقانون كوني مطرد، التي نعتقد أنها وقعت قبل "أ" وكانت سببا فيه! فلا حقيقة "للتفسير الطبيعي" Scientific Explanation إلا على هذا المعنى على أي حال! فإن أعملنا مبدأ الاستمرارية الطبيعية في جهة الماضي، على ما هو شائع من تفسير المشاهدات الطيفية للنجوم البعيدة بالقياس على الانحراف الطيفي أو الإزاحة الحمراء Redshift ومن ثم اتخاذه دليلا على تباعد الأجرام وتوسعها في الفضاء، ومددناه (أي افتراض الاستمرارية) حتى نجاوز به حدث نشأة الكون نفسه في الماضي السحيق، أصبح بين أيدينا "نموذج طبيعي" لتوصيف ذلك الحدث على أنه نتاج سلسلة من الأحداث "الطبيعية" السابقة عليه التي كانت كل مجموعة منها سببا فيما جاء بعدها، في تمدد مطرد بداية من نقطة غامضة ما زلنا لا نتصور سببها (الطبيعي أيضا).
وعليه فمن قال إن حدث أو أحداث نشأة الكون (كما يصفها ذلك النموذج الطبيعي) لم تنته إلى الآن، لاستمراره في التمدد والتوسع باطراد، لم يخطئ عند الطبيعيين! ذلك أن التمدد والتوسع ليس أثرا لما يسمى "إعلاميا" عندهم بحدث الخلق أو النشأة في الحقيقة وإنما هو حلقة من سلسلة من الأحداث التي لا فرق بين أولها (الذي لا تصور له إلى الآن) وأوسطها وآخرها حدوثا، في مطلق الخضوع للقانون الكوني الجاري المستمر إلى ما قبلها (أي تلك الأحداث) جميعا! سم منها ما شئت بأنه حدث "نشأة" أو "خلق" أو غير ذلك، المهم أن تعتقد أنها كلها سواء معرفيا على هذا الاعتبار "الطبيعي"! ولهذا وبنفس المنطق ترى الطبيعيين يراوغون كلما سئلوا عن نظرية أصل الأنواع، كيف يقال إنها تفسر أصل الحياة وتقدم تصورا لكيفية نشأتها في الأجسام الميتة ابتداء؟ فيقول قائلهم إنها ليست نظرية في أصل الحياة وإنما في أصل الأنواع، آحاد الأنواع، تصل بها جميعا إلى كائن أحادي الخلية، ثم لا شأن لها بعد ذلك بتفسير الكيفية الطبيعية التي تكون بها ذلك الكائن الحي الوحيد من المادة الميتة!
ولتيسير هذا المفهوم على القارئ وتقريبه إلى ذهنه نقول: من اعتقد أن وقوع أي انفجار "اعتيادي" مما نراه في واقعنا المحسوس في نجم من النجوم (مثلا)، لا يقتضي – كغيره من حوادث العالم - إثبات علة أولى (الخالق بالغيب سبحانه)، فهو كذلك لا يعتقد أن الانفجار الكبير المزعوم يلزم منه إثبات العلة الأولى، وللأسباب نفسها وتبعا لنفس الفلسفة الفاسدة ولا فرق! فكلا الانفجارين قد خضعا للقانون الطبيعي (بشكل ما أو بآخر) الذي يزعم أحدهم أن مجرد تصوره وتوصيفه يكفي معرفيا في تفسير ما يخضع له من أحداث، دون التعليل بخالق غيبي فوق الطبيعة وأسبابها، لاعتقاده تسلسل الأسباب الكونية "الطبيعية" من الأزل وإلى الأبد في إطار هذا النموذج الطبيعي أو ذاك!
فالأمر الذي يجب أن يفهمه إخواننا ويتأملوا فيه مليا، أن "طبيعية" نموذج الانفجار الكبير وما يناظره من نظريات أو نماذج تصورية لأحداث النشأة الأولى للسماوات والأرض وما بينهما = هي الدهرية بعينها، ولا مخرج من تلك الدهرية المعاصرة إلا بإسقاط ذلك النموذج جملة واحدة وسدّ الباب – معرفيا – أمام الطريقة العلمية الطبيعية في الوصول إلى تصور أحداث وأسباب وكيفيات خلق السماوات والأرض وصور الحياة على الأرض، وذلك بتحديد حدود واضحة قاطعة لمبدأ الاستمرارية القانونية الطبيعية فلا تتجاوزها قيد أنملة! فالمنطق والبداهة تحكم بضرورة ألا تكون تلك الأحداث التي خُلقت فيها سائر نواميس الكون وقوانينه التي تحكمه الآن، قد خضعت في تفاصيلها وأسبابها إلى تلك القوانين نفسها التي كانت هي مصدرها ومنشأها بالأساس! هذا دور منطقي جلي لا يعبأ به الملاحدة من الطبيعيين وغيرهم ولا يلزمهم ابتداءً لأنهم دهرية في تعاملهم مع القانون الطبيعي كما بينا، بصرف النظر عن طبيعة ما يعتقدون أزليته مع ذلك القانون من مادة أو طاقة (أو "عدم" لا يعقلون له أي معنى مستقيم) أو غير ذلك! نحن من نؤمن – تبعا لبداهة العقل أولا وقواطع النقل ثانيا – بأن سائر ما في هذا العالم من قوانين ونظم وجميع ما تجري عليه تلك القوانين والنظم من مادة وطاقة وغير ذلك مما اجتهد علماء الطبيعة في تصنيفه وتقسيمه عبر القرون والأعصار، إنما هي حادثة كلها من بعد عدمها (كانت بعد أن لم تكن)، وكان حدوثها وابتداؤها – بالضرورة – في أحداث خلق السموات والأرض، لا قبل ذلك! وهو ما يقتضي القطع بأن أحداث خلق السماوات والأرض لا يمكن الوصول إلى معرفتها بإعمال قاعدة الاستمرارية والانتظامية Uniformity (وهي من الكليات الكبرى التي تقوم عليها منهجية العلم الطبيعي) التي زعموا تأسيسا عليها أن التمدد الكوني لابد وأنه يمتد في جهة الماضي إلى نقطة بدأ منها بناء العالم! فمجرد التطلع إلى معرفة تلك الأحداث من طريق قوانين الطبيعة يقتضي إخضاع تلك الأحداث الفريدة لقانون كانت هي السبب في ظهوره بالأساس! لذا نقول إن هذه القفزة الإيمانية Leap of faith التي يقوم عليها ذلك النموذج (وأي نموذج طبيعي في نفس الأمر) لا يصح لنا قبولها أصلا كمسلمين، وعلى الباحثين في فلسفة العلوم الطبيعية وفي فلسفات الملاحدة المعاصرين أن يتنبهوا لضرورة معاملة نموذج الانفجار الكبير هذا بنفس المعاملة التي يتناولون بها نظرية داروين في أصل الأنواع، لقيامها على نفس المنطق الدهري الفاسد في تناول قضية النشأة الأولى معرفيا! فلا نقبل بحال من الأحوال أن يتخذ الانفجار الكبير "حجة" على الملاحدة تقليدا للنصارى المعاصرين، كما يسلكه بعض المسلمين!
وأقول إنه توشك أن تظهر في المسلمين طائفة جديدة من المتكلمين تتخذ من الانفجار الكبير بديلا لبرهان الحدوث الذي استعمله المتكلمون الأوائل في الرد على فلاسفة الإلحاد، تماما كما كان برهان الحدوث هو الطريق "العصري" في زمانهم لمجادلة الملاحدة، الذي يرون ضرورة تعلمه وإتقانه للرد عليهم! ثم إذا بنا نفاجأ بعد حين بمن يرى وجوب اعتقاد صحة الانفجار الخرافي هذا، وتلبيسه لبوس العقيدة الإسلامية في خلق السماوات والأرض (وهذا موجود بالفعل وقد رأيته في غير موضع)، ويحكمون بنقص إيمان من لم يدرس تلك النظرية ويعتقد صحتها ويتعلم كيف يؤسس عليها إيمانه بوجود باريه! والطريق إلى ذلك قد تمهد بالفعل فيما يرى الناظر، بظهور من يزعمون أن القرءان قد جاء بمصداق "الانفجار الكبير" بتأويل متعسف فاسد لبعض آيات خلق السماوات والأرض، يعدون ذلك من دلائل صدق النبوة، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا وليُعلم أن من الملاحدة المعاصرين من تنازل عن دهريته، ولكن مع نفي السببية نفسها فيما قبل حدث الانفجار، حتى إذا ما قيل له إن الانفجار الكبير لابد وأن له سبب متقدم عليه، قال بل لا سببية قبل الانفجار لأنه كان نقطة بداية الزمان والمكان نفسه وجوديا، وفقا للنسبية العامة! ولا شك أنه متناقض لأن مطلق اعتقاد وقوع حدث الانفجار يلزم منه التسليم بوجود عامل سببي مفجر، بصرف النظر عن ماهية ذلك العامل وما إذا كان طبيعيا أو ما ورائيا! وهو متناقض كذلك لأن السببية مفهوم ذهني بدهي محض ملازم لتصور الحوادث ولمطلق معنى الحدوث نفسه، فلا يصح قبوله في وصف بعض الحوادث ورده في غيرها، بدعوى أن "الزمان" لم يكن قد بدأ بعد! هذا تحكم باطل لا وجه له! وإلا، فمن أسقط السببية على المستوى تحت الذري، أو عطلها فيما قبل الانفجار المزعوم، فقد أوقع نفسه في التناقض بمجرد سعيه في بناء أي نموذج "تفسيري" لأي شيء من محسوسات هذا العالم، فالعلم الطبيعي نفسه إنما هو سعي في معرفة "أسباب" الظواهر الطبيعية المحسوسة!
ولو كان الزمان لم يبدأ (بهذا الإطلاق) إلا بعد وقوع الحدث الفردي (الانفجار المزعوم)، لما صح في العقل أن نصف ذلك الحدث بأنه "قد حدث" (فعل ماضي)، لأنه لولا مفهوم الزمان المجرد في أذهاننا ما جاز لنا أن نتصور واقعا قبل الحدث وواقعا آخر مغايرا بعد الحدث (وهو ما يقتضيه إطلاق معنى الحدوث نفسه في اللغة الطبيعية)! فلا يمكن الفصل – في الذهن - بين مفهوم الزمان ومفهوم الحدوث، كما لا يمكن الفصل بين معنى السببية ومعنى الحدوث!
والقصد أنه حتى هذا الذي تنازل عن دهريته، وقرر قبول القول بحدوث جميع المحسوسات ونظامها الطبيعي الذي يحكمها، بل ونسب الحدوث إلى الزمان والمكان نفسه، على أثر التصور الفلسفي الفاسد لماهية "الزمكان" عند أكثر الطبيعيين المعاصرين، حتى هذا تراه يتخذ من الانفجار الكبير مستندا على أنه ليس ثمة خلق ولا خالق ولا علة أولى ولا شيء من ذلك، لأن الزمان نفسه قد بدأ معه تبعا لذلك النموذج، فإذا كان الزمان قد بدأ معه، فقد سقط شرط من شروط السببية بزعمه: ألا وهو تقدم العلة زمانيا على معلولها!
والحاصل أنه لا تلازم بين قبول سيناريو الانفجار الكبير أو غيره من نماذج التنظير الطبيعي في توصيف تاريخ الكون، وبين ترك الدهرية والزوال عنها! وما دام الكلام محصورا في دائرة المحسوسات بالفعل أو بالقوة (أو بعبارة أخرى: دائرة العلم الطبيعي)، فالملحد هو المستفيد من ذلك الكلام لا محالة! بل لو أنه دقق النظر لاستطاع أن يُلزم خصمه اللاهوتي أو المتكلم بقبول صورة واحدة على الأقل من صور الدهرية المعاصرة التي ذكرناها آنفا، من مجرد التسليم بقبول نموذج الانفجار الكبير كنموذج نظري لتوصيف أحداث نشأة هذا الكون كما نعرفه توصيفا طبيعيا، لأن بناءه وتصوره (كنموذج طبيعي) يقوم على مسلمات الدهريين بالأساس كما بينا وجه ذلك فيما مر معك!
فإن قيل إن نموذج الانفجار الكبير في علم الكوزمولوجيا Big Bang Model هو الأكثر رواجا وقبولا الآن في المعاهد والأكاديميات الغربية لوصف سيناريو تكون هذا العالم كما نعرفه بسماواته وأرضه، فلابد وأنه حق، قلنا: هذا كلام من لا يدري ما معنى "النموذج النظري" Theoretical Model في أي علم من العلوم الطبيعية، ولا يدري أنه حتى وإن أجمع عليه أهل الأرض اليوم جميعا وأطبقوا على قبوله، فإن هذا لا يمنع أبدا من إمكان ثبوت بطلانه في يوم من الأيام (إن سلمنا بظهور صحته ومعقلويته وسلامته من الخلل الفلسفي)! فضلا عن كونه كلام من لا يدري أصناف المسائل المعرفية وأساليب تحقيق المعرفة فيها، وما يتعين استصحابه من مسلمات كلية فلسفية في طرق تحقيق المعرفة الصحيحة Justified Belief فيما يتعلق بالكيفية التي نشأ بها الكون ونظامه وقانونه وجميع ما فيه!
يتبع ...