هل من زكاة يا خريج الحلقات؟




في نهاية كل عام دراسي تنتشر تلك الإعلانات المبهِجة، التي تحمل خبر تخرّج عشرات بل مئات الحفاظ من طلاب حلقات ودُور تحفيظ القرآن.
ويُقَارِنُ هذا الشعور ـ أحياناً ـ تساؤل ممزوج بشيء من الألم عن أثر هذا الإنتاج الراجع على حلقات التحفيظ في مساجدنا، ودُورنا النسائية، وأعني تحديداً: قلّة من يجلس من هؤلاء الخريجين "المؤهَّلين" ليُعلّم كما تَعَلّم، وليخرّج لنا أجيالاً كما فعلَ أشياخه.
إنني ـ وبحكم قربي من هذه الجمعيات المباركة، وإشرافي على أحد مجمعات التحفيظ ـ أشارك إخواني المسؤولين في الشكوى من قلّة المدرسين المواطنين الذين لديهم استعداد لملء الأمكنة الشاغرة في هذه الوظيفة المهمة.
وليكون الحلّ عملياً؛ فعلينا أن نحدد أهم أطراف المشكلة، وهما: الخرّيج (ذكر/أنثى)، والطرف الآخر: الجمعية المشرفة على الحلقات والدور.
أما ما يخص الطالب والطالبة؛ فإن غالب ما يعتذر به هؤلاء عن عدم تدريسهم، وصبرهم: انشغالهم بأمورهم الخاصة، أو حصولهم على وظيفة تضطرهم للنقل إلى بلد أخرى، ونحو ذلك من الأعذار التي تعود في غالبها لأمور اقتصادية، من أبرزها: ضعف مرتب المدرس السعودي ـ من الجنسين ـ عطفاً على احتياجاته المناطة به، فهو يتساءلكما تتساءل الأخت: ماذا تصنع 500 أو 700 ريال، للمُدَرّس أو المدرسّة؟ وإن زادت فهي 1000 ريال تقريياً، في ظلّ هذا الارتفاع العالمي في الأسعار؟ ولئن كانت المرأة ـ غالباً ـ تَنْتَظِرُ النفقةَ عليها؛ فإن الشاب يُنْتَظرُ منه الإنفاق على أهله وزوجه وأولاده!
ولئن كان المدرِّس من إخواننا الوافدين قد يتكيّف إلى حد كبير، ويتخفف من كثير من القيود الاجتماعية؛ فابن البلد ليس كذلك، ومقارنته من جهة الرواتب بالمدرس الوافد ليس عدلاً.
وأما ما يخصُّ الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن: فيجبُ الاعتراف بأن الرواتب التي تقدَّم للمدرسين عموماً، وللسعوديين منهم خصوصاً ضعيفة، خاصة وأنها لم تراعِ في غالب الأحيان المتغيرات الاقتصادية العالمية التي ارتفعت معها الأسعار بشكل يصل إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل نحوٍ من عشرين عاماً، فإذا ما خوطب مسؤول في أحد هذه الجمعيات؛ شكا من ضعف الدعم، وقلّة المداخيل التي تساعد على رفع الرواتب!
ولحل هذه القضية: فإنني أقترح ما يلي:
أولاً: أن لا يُعطى الطالب/ـة شهادة إجازة، إلا بعد أن يدرس لمدة سنة في المكان الذي تخرّج فيه، وتكون هذه المدة بمثابة شهادة خبرة عملية تؤهله للعمل في الميدان.
ولهذه السنة أثرٌ معنوي ـ بالإضافة إلى الأثر الحسيّ ـ وهو شعور الطالب بالانتقال من صف الطلاب إلى مستوى المدرسين، ويذوق لذة التعليم، وتكون سبباً في انطلاقه للتعليم، سواء في نفس المكان الذي تخرّج فيه، أو حيث تقتضي المصلحة وجوده.
ثانياً: يُربَط توظيف الشباب السعودي بهذه الوظيفة ـ بعد أن تثبت صلاحيته لذلك ـ بنظام الوظائف الرسمي، أو أي نظام يضمن له احتساب هذا من سنوات الخدمة في الدولة، فإن ما تقوم به جمعيات تحفيظ القرآن من حفظ لشباب الأمة من المنزلقات الفكرية والسلوكية = لا ينكره منصِف، وهو يَصبُّ في المقاصد الشرعية للدولة المسلمة.
وما دامت الدولة حريصةً على سعودة الوظائف؛ فلتكن هذه الوظيفة من الوظائف التي تحتسب للتجار ورجال الأعمال، بأن يتحمل راتب هذا الشاب الذي تُشرِف عليه الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن، وبهذا يمكن كفالة آلاف من الطلاب السعوديين، فضلاً عن دفعهم للانخراط في وظيفة من أشرف الوظائف "تعليم القرآن".
ثالثًا: مخاطبة التجار وذوي اليسار بتحمل كفالة عدد من المدرسين لمدة عام أو أكثر، واستثمار الأوقاف الشخصية التي يوقفها كثيرٌ من الناس على أبواب البر، فتخاطِب الجمعيات من له وقف (سبيل) في أوجه الخير أن يخصص منه كفالةً لمدرس، أو نصف مدرس.
رابعًا: أن تتبنى الدولة ـ وفقها الله ـ إيجاد وقفٍ كبير في كلّ منقطة خاصٍ بتعليم القرآن، تشرف عليه الوزارةالمعنيّة بذلك، فهذا سيكون له أثرٌ عظيم في تحسين دخول الجمعيات، والعاملين فيها.
وبعدُ: فإنني أدرك أن المشكلة أكبر من حصرها في سبب، وأن مثل هذا الموضوع يحتاج إلى لقاءات جادة تسعى لحل المشكلة، لكنني مؤمن أيضاً بأن ثمة ما هو أكبر وأقوى من هذه العقبات، إذا وُجد= فإنه سيكْسِرُ كثيراً من الحواجز والعوائق، إنه حملُ الهمّ لتبليغ هذا الدين، والسعيِ لإدخال طالبٍ أو أكثر في رصيده الأخروي، رجاءةَ هذا الطالب أو الطالبة يكون من خير أعماله التي يلقى اللهَ بها.
ولو أخذ كلُّ خرّيج وخريجة على نفسه ألا يغادر هذه الحياة إلا وقد حفّظ طالباً للقرآن؛ لتضاعف العدد كثيراً، ولحصلت الكفاية بإذن الله.
إن مما يرفع الهمّة: قراءة سِيَر السلف في الصبر على تعليم القرآن، وأرشِّح لأهل القرآن كتاب الحافظ الذهبي: "معرفة القراء الكبار"، ففيه من أخبار القرّاء ما يرفع الهمم، لعلّ الله أن يرينا في إخواننا وأخواتنا الخرّيجين ما تقرّ به العين، وينشرح به الصدر.


* المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4501.html