بعض القواعد تنشأ في رحم المعارك العلمية أو العقدية ، فاحذرها ، فكثيرا ما تكون مدخولة ، أو هي مجرد افتراض يحتاج إلى استدلال لصحته ، وقد تصل إلى أن تكون : لا أساس لها من الصحة . لكن ورودها في سياق الجدل العراكي جعلها تخرج بالجزم ، وكأنها من الأصول التي لا تقبل إلا اليقين !ومن ذلك هذه القاعدة التي وردت في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث قال : ((فإن الله أو رسوله لا ينفي اسم مسمى أمر - أمر الله به ، ورسوله - إلا إذا تُرك بعض واجباته ؛ كقوله : (( لا صلاة إلا بأم القرآن )) ، وقوله : (( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له )) ، ونحو ذلك .
فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة ، لم ينفها لانتفاء المستحب ؛ فإن هذا لو جاز ؛ لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج ؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أقضل منه ، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ولا أبو بكر ولا عمر . فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه ، لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين ، وهذا لا يقوله عاقل .
فمن قال : إن المنفي هو الكمال ، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ، ويتعرض للعقوبة ؛ فقد صدق . وإن أراد نفي الكمال المستحب ؛ فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله ، ولا يجوز أن يقع )) . 7/ 14-15
هذه القاعدة التي قررها شيخ الإسلام ، ويمكن تلخيصها في العبارة التالية : إن الشيء المأمور به إذا نفاه خطاب الشرع ، فلا ينفيه إلا لإخلال بشيء من أجزائه الواجبة ، ويستحيل أن يكون منفيا لخلل في مستحباته .
وأورد على ذلك أمثلة ، منها : (( لا صلاة إلا بأم القرآن )) , كما ترى !
فأول ما ينبهك على خطأ هذا التقرير : أنه يخالف فهما جرى عليه كثير من الفقهاء ( وهم سادة العقلاء) يحملون فيه نحو هذا النفي على نفي الكمال ، كالحنفية مع الحديث المضروب به المثل ! وتجد نحوه عند المالكية والشافعية والحنابلة في أحاديث أخرى ، كلهم قد يحمل نفي ما أمر به الشرع على نفي الكمال المستحب ، لا القدر المصحِّح من ركن أو واجب .
إذن المسألة
- في أقل أحوالها : يُـجوِّزها بعض العقلاء .
- وفي أوسط أحوالها : خلافية ، وليست قاعدة يُحاكم إليها المخالفون فيها .
- وفي نهاية الأمر : هي خطأ لا تصح .


ثانيا : جزم شيخ الإسلام ابن تيمية بعدم جواز أن يُنفى المأمور به ، ويكون المقصود نفي كماله المستحب ، وأن هذا لا يمكن أن يقع في خطاب الشرع !
وهنا أسأل :
هل هذا مأخوذ من اللغة ، أم من نص الشرع .
أما أن يقال من اللغة : فهذه دعوى عريضة ، يخالفها العقل والنقل , ولا ذكرها أحد من أئمة اللغة .
بل هذا إمام من أئمة اللغة يقرر عكس ما قرره شيخ الإسلام ، فيذكر ابن قتيبة حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ((لم يؤمن من بات شبعان وبات جاره طاويا)) ، فيقول : (( أي لم يستكمل الإيمان ، وهذا شبيه بقوله : لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه ، يريد : لا كمال وضوء ، ولا فضيلة وضوء )) . فلم ير ابن قتيبة (وهو من أئمة اللغة المتقدمين) أن هذا الأسلوب يمتنع معه حمل النفي على نفي الكمال المستحب .
فاللغة بسعتها ودلالة سياقاتها وبمجازاتها تتسع لأكثر مما نفاه شيخ الإسلام ! ولا يحتاج ذلك إلى شواهد !
ألا ترى أني لو قلت لك : لا صلاة إلا صلاة أبي بكر ، أنك ستفهم أنه لا صلاة تامة ، وأني لا أريد إلا نفي القدر المستحب ، بل قدر الكمال .
ألا ترى أني لو قلت لك : لا بِـرَّ إلا بر صاحب الغار الذي انتظر استيقاظ والديه ليسقيهما من اللبن , قبل أبنائه . ستفهم أن هذا أعلى البر ، لا القدر الواجب منه .
ومع ذلك ، فهذا شاهد :
يقول مجنون ليلى :
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ••• ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
ومعلوم أنه لا ينفي القدر الواجب حصوله ليكون الناس ناسًا ، وإنما يريد كُمّل الناس ، وأجرى التعبير على مجرى المبالغة المعهودة في لغة العرب .
ومعلوم أيضًا أنه لا ينفي أصل الخير ولا قدره الواجب ، ولكنه يقصد قدر الكمال في نظره .
وقال مسكين الدارمي (ت89هـ):


أعُفُّ لدى عسري وأُبدي تجملا ••• ولا خير فيمن لا يَعِفُّ لدى العُسرِ


ومعلوم أن التعفف عن السؤال مع الإعسار مرتبة كمال مستحب ، عقلا ونقلا . فمقصوده لا خير تاما ، ولا يستجمع الخير واجبه ومستحبه ؛ إلا المتعفف .


وأما في الشرع :
فقد جاء استعمال نفي جنس المأمور مع إرادة نفي الكمال المستحب في أكثر من نص شرعي , ووفق فهم الجمهور لذلك النص !
ومن ذلك :
أولا : حديث صحيح مسلم : عن بن أبي عَتيقٍ ، قال : (( تَحَدَّثتُ أنا وَالْقَاسمُ عنْدَ عَائشَةَ رضي الله عنها حَديثًا ، وكان الْقَاسمُ رَجلًا لحَّانَةً ، وكان لِأمِّ ولَدٍ . فقالت له عَائشَةُ : ما لك لا تحَدَّثُ كما يتَحَدَّثُ ابن أَخي هذا ؟! أمَا إني قد عَلمْتُ من أَينَ أُتِيتَ ، هذا أَدَّبَتهُ أمُّهُ ، وَأَنتَ أَدَّبَتكَ أمُّكَ . قال : فَغَضبَ الْقَاسمُ ، وأَضَبَّ عليها ، فلما رأَى مَائدَةَ عَائشَةَ قد أتِيَ بها ، قام ، قالت : أَينَ ؟ قال : أصَلِّي ، قالت : اجْلسْ ، قال : إني أصَلِّي ! قالت : اجْلسْ غُـدَرُ ! إني سمعت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا صلَاةَ بحَضْرَةِ الطّعَامِ ، ولا هو يدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ )) .
فذهب جماهير أهل العلم (ومنهم الأئمة الأربعة) إلى أن المنفي هو الكمال المستحب فقط لمن صلى وهو بحضرة الطعام , وهو ظاهر فقه عائشة رضي الله عنها ؛ فإنها حملت الحديث على من حضره الطعام وهو ليس مضطرا إليه ولا جائعا جوعا ملهيا .
وقد قال ابن عبد البر : (( قد أجمعوا أنه لو صلى بحضرة الطعام ، فأكمل صلاته ، ولم يترك من فرائضها شيئا : أن صلاته مجزية عنه . فكذلك إذا صلاها حاقنا ، فأكمل صلاته . وفي هذا دليل على أن النهي عن الصلاة بحضرة الطعام من أجل خوف اشتغال بال المصلي بالطعام عن الصلاة وتركه إقامتها على حدودها ، فإذا أقامها على حدودها خرج من المعنى المخوف عليه ، وأجزته صلاته لذلك)) .
ثانيا : حديث الصحيحين : ((لا رقيه إلا من عَينٍ أو حُـمَةٍ)) .
والرقية مأمور بها ، وليس المقصود من نفيها في هذا الحديث نفي القدر الذي يصححها ، ولا نفي نفعها فيما سوى العين والسم ، وإنما المقصود : هي أنفع ما تكون وأعظمه شفاء فيهما .
ثالثا : حديث الصحيحين : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا صَومَ فَوقَ صَومِ دَاودَ عليه السّلَام )) .
والمقصود : لا صوم أفضل ، وليس نفيا للصحة بنقصان ركن أو واجب .
فإن قلت : إن قوله : ((فوق )) هو الذي دل على أن المراد الفضيلة لا الصحة ، أجبتك : هذا يكفي في الرد على إطلاق عبارة شيخ الإسلام ؛ لأن هذا السياق أثبت أن المأمور به قد يُنفى ويكون المقصود نفي شيء آخر غير الصحة .


وهكذا يتبين أن القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام إن لم تكن خطأ ، فليست محل اتفاق ، فضلا عن أن تكون مما (( لا يجوز أن يقع)) في كلام الله ورسوله ، كما قال .


ولكن مع الغلو في تعظيم شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومع عدم محاكمة الأقوال إلى الأدلة ، يصبح هذا القول منه عند الغلاة فيه قاعدة نفيسة وفائدة غالية من إبداعاته ! ولا يفكرون في تمحيصها , ولا في التثبت منها .

د/حاتم العوني.