هل كان المولى إدريس شيعيًّا؟!

لا يتوانى الشيعةُ المغاربة وغيرهم عن نسبة المولى إدريس - رحمه الله تعالى - للتشيُّع والرفض؛ مستندين في ذلك على نصوص وأحداث تاريخية في غير سياقها ومحلها؛ وذلك من أجلِ إضفاءِ طابع التأصيل والتاريخ والمشروعية للمغاربة بمصداقية مذهب الشيعة، وأولويته في الرِّيادة والقيادة للأمة الإسلامية!
والغاية من ذلك غيرُ خفيَّة على أحد، وهي تمريرُ مذهب الشِّيعة بحمولته المناقضة للإسلام؛ عقيدة، وتشريعًا، وفِكرًا، وتصورًا، وسلوكًا... إلى وعي المغاربة وغيرهم، الغائبة ثقافيًّا وفكريًّا عن علمِ حراسة الحدود؛ (أي: علم المِلَل والنِّحَل). ولا بد أن نشير - ولو بنبذة مختصرة - إلى قصة هذا الرجل في وصوله إلى المغرب؛ فهو "إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أحدُ القلائل الذين نجَوْا مِن القتل في مأساة فخ، التي أوقع العباسيُّون فيها بجماعة من العَلَويين من أحفاد الحسن بن علي الذين كانوا يَدْعون لأنفسهم، ويطمعون في أن يقيموا لأنفسهم دولة، وكانت المأساة في سنة 169هـ - 786م في خلافة الهادي العباسي. وقد فرَّ الناجون من هذه الوقعة إلى أطراف البلاد، وكان من الذين فرُّوا يحيى بن عبدالله، الذي هرب إلى بلاد الدَّيْلم جنوبي بحر قزوين، وسبَّب للعباسيين متاعبَ كثيرة، ولكن أسعدهم حظًّا كان أخاه إدريس بن عبدالله، الذي أبعد في الهرب، حتى وصل إلى المغرب الأقصى، ولحق به نفرٌ من إخوته الذين نجَوْا من الموت أيضًا، أهمهم: سليمان، وداود"[1]. وهنا عندما وصل إلى المغرب الأقصى، جَمَع حوله ما تشتَّت من البربر، وأنشأ فيها دولةَ الأدارسة، ولكي نجلي الأمر أكثر، نورد تلك الوثيقة الهامة التي تُعَد بمثابة دستور الدولة الجديدة، ونصها كالتالي: "أمَّا بعدُ: فإنِّي أدعوكم إلى كتابِ الله وسنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وإلى العدلِ في الرَّعية، والقَسْم بالسَّويَّة، ورفعِ المظالم، والأخذ بيدِ المظلوم، وإحياءِ السنَّة، وإماتةِ البدعة، وإنفاذِ حُكم الكتابِ على القريب والبعيد، واذكروا اللهَ في ملوكٍ غيَّروا، وللأمان خفروا، وعهد اللهِ وميثاقه نقضُوا، ولبَني بيتِه قتلوا، وأذكِّرُكم اللهَ في أراملَ احتُقِرتْ، وحدودٍ عُطِّلت، وفي دماءٍ بغير حقٍّ سُفكت، فقد نبَذوا الكتابَ والإسلام، فلم يبقَ من الإسلام إلا اسمُه، ولا من القرآنِ إلا رسمُه، واعلَموا - عبادَ الله - أنَّ مما أوجبَ اللهُ على أهلِ طاعته: المجاهَدةَ لأهلِ عداوتِه ومعصيتِه باليدِ وباللِّسان؛ فباللسانِ الدعاءُ إلى الله بالموعظةِ الحسنة والنَّصيحة، والحض على طاعة الله، والتوبة عن الذُّنوبِ بعد الإنابةِ والإقلاع، والنُّزوع عما يكرَهُه اللهُ، والتَّواصي بالحقِّ والصِّدق، والصَّبر والرحمة والرِّفق، والتَّناهي عن معاصي اللهِ كلِّها، والتَّعليم والتَّقديم لمن استجاب للهِ ورسولِه، حتَّى تنفذَ بصائرُهم وتكمُلَ، وتجتمعَ كلمتُهم وتنتظم. فإذا اجتمعَ منهم مَنْ يكون للفسادِ دافعًا، وللظَّالمين مقاومًا، وعلى البغْيِ والعدوان قاهرًا، أظهَروا دعوتَهم، وندبوا العبادَ إلى طاعةِ ربِّهم، ودافعوا أهلَ الجَوْر عن ارتكابِ ما حرَّم اللهُ عليهم، وحالوا بينَ أهلِ المعاصي وبين العملِ بها؛ فإنَّ في معصيةِ الله تلَفًا لمن ركبها، وإهلاكًا لمن عمِل بها. ولا يُؤَيِّسنَّكم من علوِّ الحقِّ اضطهادُه وقلةُ أنصاره؛ فإنَّ فيما بدا من وَحدةِ النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياءِ الدَّاعين إلى الله قبلَه، وتكثيره إياهم بعد القلَّة، وإعزازهم بعد الذِّلةِ - دليلاً بيِّنًا وبرهانًا واضحًا؛ قال الله - عزَّ وجل -: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [آل عمران: 123]، وقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، فنصَرَ اللهُ نبيَّه، وكثَّر جندَه، وأظهر حزبَه، وأنجزَ وعدَه، جزاءً من اللهِ سبحانه، وثوابًا لفضله وصبرِه وإيثارِه طاعةَ ربِّه، ورأفتِه بعباده ورحمتِه، وحسنِ قيامه بالعدل والقِسطِ في تربيتِهم، ومجاهدةِ أعدائهم، وزهدِه فيهم، ورغبتِه فيما يريدُه اللهُ، ومواساتِه أصحابَه، وسَعةِ أخلاقه، كما أدَّبه اللهُ وأمرَ العبادَ باتِّباعه، وسلوكِ سبيلِه، والاقتداء لهدايتِه واقتفاءِ أثره، فإذا فعلوا ذلك، أنجَزَ لهم ما وعَدَهم؛ كما قال - عز وجل -: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]". فنجد في هذه الخطبة من الأسس التي قامت عليها دولة الأدارسة: قيام الدولة الإدريسية على قاعدة الكتاب والسنَّة، وتحكيمهما، والنَّهل من معينهما، وليس على نظريَّةِ الإمامة التي تحصرُ فَهْمَ الدِّين في أقوال أئمة محصورين بعدد معيَّن وحدهم دون غيرهم. قيام المولى إدريس بالحُكم الفعلي الواقعي مباشرًا مهامَّ الحُكم والدولة، خلاف نظرية الشيعة في العِصمة التي تُضفي على الحاكم صفة القداسة والمهدوية، التي تجعل الحُكم بيدِ نوَّابٍ عن المهدي، يحكُمون باسمه، كما في ولاية الفقيه في إيران اليوم. الثناء العطر على الصحابة الكرام؛ ويتضح ذلك من وصفِه لهم بجُند النبي وحزبه، وهو نص يبيِّنُ عقيدته بوضوح في صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالتالي، فإن ما يحاول به الشيعة التوهيم بأن المولى إدريس كان شيعيًّا لهو من التلبيس والتدليس الذي يجيدونه، وإلا فإن الشيعة لم يكونوا موجودينَ في الزمن الأول بالصورة الموجودة عليه حاليًّا؛ وإنما فقط نزعات سياسية ترى أن عليًّا وذريته هم في الخلافة وتقلُّد الحُكم أَولى من غيرهم، فنجد أن الشيعة الإمامية في العصر الحاضر قد انبَنَتْ عريضةُ دِينهم على: الإمامة، والعصمة، والمهدوية، والرجعة، والغيبة، والبَداء، والمتعة، وتكفير الصحابة، وتكفير المسلمين، ورد السنَّة، والتَّقيَّة، وتحريف القرآن، والغلو،... وهذه لم يقُلْ أحد: إن الأدارسة قد قالوا بها واعتقدوها، بل كان لا يزال التشيُّعُ بصورته التي ذكرتُ في طور النشأة والتبلور، حيث لم تكن هناك إمامية ولا اثنا عشرية، وإنما سنَّةٌ محمدية أثرية. وإذا كان البعضُ يعُدُّ الدولة الإدريسية دولة شيعية، على أساس أن أئمتها كانوا من أهل البيت - فمن الثابت تاريخيًّا أن الأدارسة كانوا أهل سنَّة وجماعة؛ حيث تروي الكتب التاريخية رواياتٍ عن المولى إدريس أنه قال مشيرًا إلى مالك: "نحن أحقُّ باتِّباع مذهبه وقراءة كتابه"، يعني: الموطَّأ، وأمرَ بذلك في جميع معاقله، فبالتالي لم تعرف دولته مذهبًا سوى المذهبِ المالكيِّ بمجموع إنتاجِه الفِقهيِّ. وكونُ المولى إدريس ينحدرُ من آل البيت لا يجعل منه حجَّةً للشيعة الاثني عشرية اليوم، بل هو ضدهم؛ لِما رأينا من اختلاف في الأسس الفكرية والعقدية بين الأدارسة والشِّيعة الإمامية، إضافة إلى أن المغاربةَ - بشكل كُليٍّ - رفَضوا الوجود الشِّيعي المتجسِّد في الدولة العُبَيدية الرافضية حينما فكَّرَتْ في التوسُّع غربًا باتجاه المغرب اليوم؛ مما جعلهم يصطدمون مع أواخر ملوك الأدارسة، وإلا فلو كان الأمر يتعلَّقُ بدولتين على نفس المعتقد والطرح، لَمَا كان هذا الصدامُ بين العُبَيديين والأدارسة. فالمغرب كان - وما يزال - قلعةً حصينة ضد التشيُّع، فمهما لبَّسوا ودلَّسوا وداروا بالتَّقيَّة، يبقى المغرب مقبرةً للتشيُّع.

[1] تاريخ المغرب وحضارته؛ لحسين مؤنس، المجلد 1.