دروس من حجة الوداع
من خطب النبي صلى الله عليه وسلم الجامعة خطبته الشهيرة بـ"خطبة حجة الوداع" التي بيَّن فيها صلى الله عليه وسلم أصول الإسلام، وقرَّر فيها قواعد الدين، وقضى على عادات الجاهلية، ووضع قوانين الأخلاق، وأرسى دعائم الاجتماع، وفي هذه الخطبة دروس كثيرة نستفيدها منها:
أولاً: التأكيد على الحفاظ على الكليَّات الخمس التي جاء الإسلام بحمايتها وصيانتها: حيث أكد صلى الله عليه وسلم على ثلاث كليات: حفظ النفس، والمال، والعرض، فقد حرَّم التعدي على النفوس المعصومة، والأموال المحترمة، والأعراض المصونة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) فكل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه.
ثانياً: القضاء على الموروثات والعادات الجاهلية التي تتعارض مع مبادئ الإسلام، وقيمه النبيلة، وأخلاقه السمحة: حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث)).
ثالثاً: حرمة المعاملات المحرمة ومن ذلك التعامل بالربا: حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله))، ذلك أن التعامل بالربا يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع طبقياً؛ يمتلئ بالأحقاد والضغائن، وتكثر فيه الجرائم، ويُعرِّض المجتمع للحرب مع الله، وأي نصر في معركة تكون مع الله.
رابعاً: الوصية بالنساء، والتأكيد على ما للرجل من حق على المرأة وما لها عليه من حق:حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف))، وبهذا يكون الإسلام هو الدين الوحيد الباقي الذي أعطى للمرأة حقوقها، ووصى بها، وأكد على ذلك؛ فأعطاها حقَّها في الميراث وكانت من قبل لا تأخذ شيئاً، وجعل لها كرامة وكانت من قبل تباع وتشترى، وجعل لها رأياً ولم يكن لها من قبل رأي بل ولا اعتبار، ثم صانها الإسلام في بيتها، وجعلها معززة في حياتها، فأي حق أفضل من ذلك.
وها نحن اليوم نرى كيف عبث المجرمون بحقوق المرأة تحت مسميات ودعاوى "حرية المرأة" و"مساواة المرأة" ... إلخ، فلا هي التي أعطوها حقها، ولا هي التي حافظت على كرامتها، وشرفها، ولا هي التي نالت سعادتها.
وها هي اليوم تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ووظيفتها في الجسد المعروض، والمظهر المنمق المبذول لكل راغب متعة حرام؛ فأي حق وأي حرية لها في ذلك؟!.
خامساً: التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله))[1]، وفي رواية: ((وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيِّناً: كتاب الله، وسنة نبيه))[2]، وهذا الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بهما وفق فهم السلف هو سبيل العزة والنصر والفوز في الدنيا والآخرة.
ولما كانت الأمة متمسكة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كانت عزيزة كريمة، تهابها الأمم، ويذل لها الملوك، والتاريخ خير شاهد، لكن لما تركت الأمة هذه التعاليم تمزقت وتفرقت، واجتمع عليها أعداؤها، فشقت وعاشت في مذلة وضياع، كما نرى اليوم ليس للمسلم أي حق ولا أدنى كرامة أو قيمة على الإطلاق.
خامساً: التأكيد على مبدأ الأخوة والوحدة الإسلامية: والتي كانت من أساسيات دعوته وأولياته حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة, فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم))[3]، وقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض))[4].
سادساً: التأكيد على مبدأ المساواة بين الناس في أصل الخليقة: حيث يقول: ((لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي, ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض؛ إلا بالتقوى، الناس من آدم, وآدم من تراب)).
الناس من جهة الآباء أكفـاء أبـوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء
فأكرم الناس وأفضلهم عند الله هم أهل التقوى كما قال ربنا تبارك وتعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
سابعاً: الحذر من كيد الشيطان، والبعد عن طاعته: حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم))[5]، فالشيطان رضي باليسير من المحقرات التي يظن المرء أنها بسيطة، وهي في الحقيقة مدخل للشيطان إلى القلب ليفسده؛ ويهلك الإنسان بعد ذلك.
ثامناً: بيان حق الميراث والنسب، والتحذير من التبني: وفي هذه المسألة يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارث وصية، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل))[6].
هذه بعض الدروس المستفادة من خطبة الرسول صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة علَّنا أن نستجيب عملاً بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (سورة الأنفال:24) وقول رسـول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى، فقيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) رواه البخاري (7280).
نسأل الله أن يجعلنا من عباده المتقين، وأن يحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] كل هذه الروايات التي استشهدنا بها سابقاً أخرحها مسلم برقم (2137).
[2] السيرة النبوية لابن هشام (6/10).
[3] المصدر السابق نفسه.
[4] رواه البخاري (4144) ومسلم (1679).
[5] نور اليقين في سيرة سيد المرسلين (ص232).
[6] رواه ابن ماجه (2712) وهو في صحيح الجامع رقم (1794).
منقول