بسم الله الرحمن الرحيم
أخرج مسلم في صحيحه (٢٣٣) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّلَاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» وفي رواية: «إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ».
قال ابن عطية في تفسيره (٢١٣/٣):
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر» .
فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله: «إن اجتنبت الكبائر».
فقال جمهورهم: هو شرط في معنى الوعد كله، أي: إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئًا من الصغائر.
وقالت فرقة: معنى قوله «إن اجتنبت»؛ أي: هي التي لا تحطها العبادات، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله: ما بينهما، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر.
قال ابن عطية: وبهذا أقول، وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره، وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها، وهذا نص الحذاق الأصوليين، وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط.
ونقل ابن حجر في فتح الباري (٣٥٧/٨) الاختلاف ولم يرحج قولًا منها، وفي (١٢/٢) نقل عن البلقيني أنه قال:
تَنْحَصِرُ - أَحْوَالَ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ - فِي خَمْسَة:
أَحَدِهَا: أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، فَهَذَا يُعَاوَضُ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ.
ثَانِيهَا: يَأْتِي بِصَغَائِرَ بِلَا إِصْرَارٍ فَهَذَا تُكَفَّرُ عَنْهُ جَزْمًا.
ثَالِثِهَا: مِثْلُهُ لَكِنْ مَعَ الْإِصْرَارِ فَلَا تُكَفَّرُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ كَبِيرَةٌ.
رَابِعِهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَغَائِرَ.
خَامِسِهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِكَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ إِذَا لَمْ يَجْتَنِبِ الْكَبَائِرَ أَنْ لَا تُكَفِّرَ الْكَبَائِرَ بَلْ تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُكَفِّرَ شَيْئًا أَصْلًا، وَالثَّانِي أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ جِهَتُهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ، فَهُنَا لَا تُكَفِّرُ شَيْئًا:
إِمَّا لِاخْتِلَاطِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ.
أَوْ لِتَمَحُّضِ الْكَبَائِرِ.
أَوْ تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ.
فَلَمْ تَتَعَيَّنْ جِهَةُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِدَوَرَانِهِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُقْتَضَى تَجَنُّبِ الْكَبَائِرِ أَنَّ هُنَاكَ كَبَائِرَ، وَمُقْتَضَى مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ أَنْ لَا كَبَائِرَ، فَيُصَانُ الْحَدِيثُ عَنْهُ.
قلت [البنهاوي]: فعلى هذا التأويل - وهو قول الجمهور، وهو الراجح - أن من اقترف شيئًا من الكبائر ولم يتب منها فإنَّ أداء الصلوات الخمس أو الجمعات أو صيام رمضان لا يكون كفارة للصغائر التي تقع من المرء بين تلك الصلوات أو الجمعات أو بين رمضان ورمضان الذي بعده.
قال أبو العباس القرطبي في المفهم (٢٨٤/١) في تعريف الكبيرة:
كلَّ ذنب أطلَقَ الشرعُ عليه أنَّهُ كبيرٌ أو عظيمٌ، أو أخبَرَ بشدَّةِ العقابِ عليه، أو علَّق عليه حَدًّا، أو شَدَّدَ النكيرَ عليه وغلَّظه، وشَهِدَ بذلك كتابُ اللهِ أو سنةٌ أو إجماعٌ: فهو كبيرة.
وقد استحسنه ابن حجر في فتح الباري (١٨٤/١٢).
قلت [البنهاوي]: فمن كان ديدنه الحلف بغير الله مستخفًا بهذا الأمر على أنه من اللغو الذي لا يؤاخذ العبد به، فقد أخطأ، فقد قال عَبْدَ الله بْن مَسْعُود رضي الله عنه: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا. - المدونة الكبرى (٥٨٤/١) -.
فمن كانت حالته على الوصف الماضي فهو ممن يغشى الكبائر بالحلف بغير الله، وإنَّ حلول رمضان لا يعد كفارة لذنوبه - على قول الجمهور - لأنه لم يجتنب الكبائر.
كذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنَّ الرُّقَى والتَمائِمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ" - السلسلة الصحيحة (٢٩٧٢) -.
فمن كان يلبس التِّوَلة - بكسر التاء وفتح ما بعدها - وهي ما يلبسه الإنسان في جسده لجلب نفع أو دفع ضر، كدبلة الزواج للتحبيب بين الزوجين، أو كسوار الواهنة الذي يلبس في المعصم من وجع الظهر؛ فهما من الشرك.
فمن كانت حالته على الوصف الماضي فهو ممن يغشى الكبائر، وإنَّ حلول رمضان لا يعد كفارة لذنوبه - على قول الجمهور - لأنه لم يجتنب الكبائر.
كذلك من علق تميمة.
قال ابن قتيبة في إصلاح غلط أبي عبيد (ص١٢٥):
وليست التَّمائم إلَّا الخَرَز.
وكان أهلُ الجاهليّة يَسْتَرقُون بها، ويظنّون بضروب منها، أنَّها تدفع عنهم الآفات.
وخبّرنيِ رجُلٌ من عُظَماء التًرْكِ وأخو خاقان ملك الخَزر، أنَّهم يسْتَمطرون بخَرَز عندهم وأحْجار.
وكان مذهب الأعراب فيها كمذهبهم.
قال الشاعر:
إذا ماتَ لم تُفْلِح مُزَيْنَةُ بعده ... فَنُوطي عليه يا مُزَيْنَ التَّمائِمَا
أي: علّقي عليه هذا الخَرَز لتَقِيه أسْباب المَنَايا. انتهى كلام ابن قتيبة رحمه الله تعالى.
قلت [البنهاوي]: فمن علق كفًا، أو لطخ الجدار بالكفوف، أو علق حدوة فرس، أو نعل طفل، أو دمية على شكل قرد، أو ما أشبه ذلك مما يراد به دفع العين، سواء كان هذا التعليق على جدار بيته أو في السيارة أو في غيرها.
وتعليق آيات القرآن والذكر يأخذ نفس الحكم على الصحيح من أقوال أهل العلم.
فمن كان يعلق شيئًا من تلك التمائم فهو ممن يغشى الكبائر، وإن حلول رمضان لا يعد كفارة لذنوبه - على قول الجمهور - لأنه لم يجتنب الكبائر.
وكذلك عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشرب المُسْكِرَات - كالخمر والحشيش والبانجو وما أشبه ذلك -، وشرب المُفَتِّرَات - كالسجائر والدخان بأنواعه -، وأكل أموال الناس بالباطل، وأخذ الربا - المسمى زورًا بالفوائد البنكية -، وسماع المعازف - المسماة بالموسيقى -، وغير ذلك من الكبائر التي يغشاها المرء ولا يتوب منها حتى يحل رمضان، فإنَّ حلول رمضان لا يعد كفارة لذنوبه - على قول الجمهور - لأنه لم يجتنب الكبائر.
فلنسارع جميعًا بالتوبة إلى الله تعالى من كل الكبائر، وبرد المظالم - إن وجدت - ليكون حلول شهر رمضان إن شاء الله تعالى كفارة لصغائر الذنوب التي حدثت من المرء.
فنسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان وأن يجعل بلوغنا إياه كفارةً لذنوبنا. آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.