كتاب "علو الهمة"
للشيخ/محمد بن إسماعيل المقدم
وهذه بعض المقتطفات التي قمت بانتقائها منه

***********************
أقسَامُ الناس من حيث القوتان العلمية والعملية
قال ابن القيم -رحمه الله-:
((كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل (1) وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة؛ إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين وهما اللذان أثنى الله سبحانه على أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- في قوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسم، فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق، وأكرمهم على الله تعالى.


القسم الثاني: عكس هؤلاء، من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر هذا الخلق وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحُمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يُضيقون الديار ويغلون الأسعار، ولا يُستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار.

القسم الثالث:
من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمنِ الضعيف، والمؤمنُ القوي خير وأحب إلى الله منه.

القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء تمرة، وكل بيضاء شحمة، يحسب الورم شحمًا، والدواء النافع سمُّا.


وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فأخبر سبحانه أنهم بالصبر واليقين بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه من جملة الخاسرين، وأقسم بالعصر -الذي هو زمن سعي الخاسرين والرابحين- على أن من عداهم فهو من الخاسرين، فقال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}))(2) اهـ.

وقال أيضًا -رحمه الله -:
(فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية يبصر الحقائق، ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب، ولا يتوقاها(3)، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله.


ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجِد التشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يُرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدري من يعبد؟ ولا بماذا يعبده؟ فتارة يعبده بذوقه ووَجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين، وكشف رأس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنًا ما كان، وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد.


فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحدٍ دينًا سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرَّف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها. فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له.

ومن كانت له هاتان القوتان؛ استقام له سيره إلى الله، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، "والوقت -كما قيل- سيف فإن قطعته، وإلا قطعك"، فإذا كان السر ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة؛ فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق) اهـ.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) وفي الأثر: "اللهم أرني الحق حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلًا، وارزقني اجتنابه"، فهؤلاء هم الذين رزقوا علمًا، وأعينوا بقوة العزيمة على العمل، وهم الموصوفون في القرآن الكريم بقوله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وبقوله سبحانه: {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثلُه في الظلمات ليس بخارج منها} فبالحياة تنال العزيمة، وبالنور ينال العلم، وأئمة هذا القسم هم أولو العزم من الرسل.
(2) "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" ص (82).
(3) وفي مثله يصدق قول الشاعر:
فليس يُزيح الكفرَ رأيٌ مسدَّدُ ... إذا هو لم يؤنَس برمي مُسددِ