أ.د. الشريف حاتم العوني
الجمعة 21/03/2014
الجمود في اتباع الدليل
الجمود جمود، سواء أكان بالتقليد الأعمى للمذاهب، أو بالرجوع للنصوص وادّعاء اتباع الدليل!
فالجمود الذهني لا علاقة له بالأمر الذي يَجمُدُ الذهنُ عليه، فقد يجمد العقل عن التفكير بسبب العادات والتقاليد، فلا يحاكمها، ولا يستطيع الخروج عن نسقها. وقد يجمد التفكير على أقوال المذاهب الفقهية، فلا يعرف سبيلاً إلى الأحكام إلاّ من خلال تلك الأقوال. وقد يجمد على سطحية فهمه للنص من الكتاب والسنة، فلا يجد في النص إلاّ ظاهرَ لفظِه دون النظر في سياقه ولا في إشارته وإيمائه، ولا يستوعب النظر في بقية النصوص الدالة على روح الشريعة ومقاصد الأحكام، ولا يستطيع مراعاة تأثيرات الواقع على الأحكام العملية.
فليس الجمود صفة ملازمة للمذهبيين (أتباع المذاهب الفقهية الأربعة)، كما يتوهم بعضهم، وليس الخروج عن المذهبية هو صك البراءة من الجمود، كما يُوهِمون الناس!
فالمذهبية لا تعني الجمود؛ إلاّ عند قاصري العلم، ممّن حفظوا أقوال المذاهب، دون علم بأدلتها ومآخذها.
والرجوع للدليل لا يعني عدم الجمود، فليس هناك أَجمَدُ من ظاهرية اللفظ التي لا تعرف علل الأحكام ومقاصد الشريعة! وأشدُّ جمودًا منها: من أضاف إلى ذلك قصورًا في النظر للنصوص، فلا ينظر عند إرادة معرفة الحكم إلاّ إلى نص واحد أو نصين، ويُلغي النظر إلى بقية النصوص المؤثرة في فهم النص وفي استخراج الحكم.
وخطورة الجمود في فهم النص أن الجامد عليه يظن نفسه ليس جامدًا، ولا يعترف بجموده، بل لا يشعر به؛ لأنه يتوهم أن لذهنه حركةً في فهم النص، وهي حركة لا تختلف عن حركة أذهان جامدي المذاهب، ممّن تقتصر حركة أذهانهم على فهم متون الفقه فَهْمَ من لا يعرف مآخذ الأئمة وأدلتهم في ترجيحاتهم.
لكن يتميز مقلدة المذاهب الجامدون عليها على أصحاب الجمود على الدليل: أنهم يعترفون بجمودهم، ولذلك فقد أغلقوا باب الاجتهاد على أنفسهم، وأرادوا إغلاقه على غيرهم. أمّا جامدو النصوص، فيظنون أنفسهم أئمة الاجتهاد، ويحسبون أكتافهم تزاحم أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد!! وهي إنما تزاحم غرورهم وجهلهم!!
ومصيبة هؤلاء أنهم يصابون بالغرور، ويظهر غرورهم بمظاهر عديدة، منها: جزمهم وقطعهم في مواطن الظنون؛ لأن جمودهم لا يتيح لهم معرفة ما يحتمله النص من المعاني! فلا يجدون فيه إلاّ معنى واحدًا، فيقطعون به!
ومن لطائف جمود الذهن على النص: هذه الفتوى الغريبة، والتي لا أنفك أضحك منها وأبكي، وهي فتوى تحريم أن تجمع المرأة شعرها في أعلى رأسها!! زعموا استنباطًا من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا).
فقادهم جمودهم الذهني إلى اعتبار هذا الوصف (رُؤوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ) إلى تحريم جمع المرأة شعرها في أعلى رأسها!
فَـقَـدْتُه من استنباط!!
فعلى فهمهم هذا سيكون إمساكُ الرجل سوطًا كأذناب البقر محرَّمًا أيضًا، لأنه أيضًا وصفٌ ورد في ذِكر الصنف المذموم الأول!
ولا يدركون أن هذه الأوصاف لم تأتِ لتحريم آحادها، وإنما جاءت علامة لهذين الصنفين، لكي نعرفهم بهذه الصفات، فنحذرهم ونحذر من أن نكون منهم.
فالأولون: هم الظلمة وأعوانهم، يظلمون الناس ويضربونهم بغير حق. والآخرون: نساء فاجرات، يحرصن على الإغواء، ولا يستحين من إعلان فجورهن بعلامات تميّزهن..
ولا علاقة للحديث بتحريم تسريحة شعر معينة، وحاشا الشريعة الغراء من هذا الهُراء!
ولذلك لم يقل أحد من شُرّاح الحديث من أهل العلم السابقين بحرمة جمع المرأة شعرها في أعلى رأسها، ولا ذكر هذا أحد في كتب المذاهب الفقهية في المحرمات، ولا أفتى بذلك أحد من أهل العلم قبل بلاء الجمود في اتباع الدليل وأصحابه الجامدين!!
وانحصر عامة كلام أهل العلم في شرحهم الحديث على ذكر معنيين لتلك الصفة:
الأول: أنهن نساء يُعظّمن رؤوسهن بالعمائم أو بصلة الشعور حتى تشبه أسنمة الإبل في ارتفاعها، فأرجعوا الحديث إلى معنى تحريم الوصل الوارد في السنة.
والثاني: أن هذا مجاز عن عدم غض البصر، وأنهن يرفعن رؤوسهن بالنظر والتحديق في الرجال رفعًا لا يعرف الحياء، فأرجعوا الحديث إلى وجوب غض البصر عن النظر المحرم الوارد في القرآن.
ولا قال أحد من أهل العلم إن هذا الحديث يحدد أنواع التسريحات المباحة وأنواعها المحرمة، كما ابتدعه جمود أتباع الدليل!!
طبعًا هم سيعدون ذلك فتحًا جديدًا، وعبقريةً اجتهادية؛ لأن حركة ذهنهم في حيّز الجمود توهمهم باجتهاد، هو اجتهاد في التجمد الذهني! أعاذكم الله من ذلك الجمود!!