قال الامام ابن سعدي في كتابه مجموع الفوائد -فائدة رقم 28-
يعجبني ما وقع لبعض أهل العلم، وهو أنه كتب له آخر من أهل العلم والدين ينتقده انتقاداً شديداً في بعض المسائل، ويزعم أنه مخطىء فيها، حتى إنه قدح في قصده ونيته، وقال مع ذلك أنه يَدينُ الله ببغضه بناءً على ما توهم من خطئه، فأجاب المكتوب له:
اعلم يا أخي أنك إذا تركت ما يجب عليك من المودة الدينية والأخوة الإسلامية
وسلكت ما يحرم عليك من اتهام أخيك بالقصد السيىء على فرض أنه أخطأ
وتجنبت الدعوة بالحكمة في مثل هذه الأمور
فإني أخبرك قبل الشروع في جوابي لك عما انتقدته عليَّ أني لا أترك ما يجب عليَّ من الإقامة على مودتك والاستمرار على محبتك المبنية على ما أعرفه من دينك انتصاراً لنفسي، بل أزيد على ذلك بإقامة العذر لك بقدحك في أخيك أني أعرف أن الدافع لك على ذلك حسن قصد، لكن لم يصحبه علم يصححه، ولا معرفة تبين مرتبته، ولا ورع ورأي صحيح يوقف العبد عند حدِّه الذي أوجبه الشرع عليه؛ فلحسن قصدك المتمحض أو الممتزج بشيء آخر قد عفوت لك عما كان منك إليَّ من الاتهام بالقصد السيىء؛ فهب أن الصواب معك يقيناً؛ فهل خطأ الإنسان عنوان على سوء قصده؟
فلو كان الأمر كذلك لتوجه رمي جميع علماء الأمة بالقصود السيئة؛ فهل سلم أحد من الخطأ؟
وهل هذا القول الذي تجرأت عليه إلا مخالف لما أجمع عليه المسلمون من أنه لا يحل رمي المسلم بالقصد السيىء إذا أخطأ في مسألة علمية دينية؟ والله تعالى قد عفا عن خطأ المؤمنين:رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا.
قال الله: قد فعلت
أخرجه: مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ثم نقول: هب أنه جاز للإنسان القدح في إرادة ما دلت القرائن والعلامات على قصده السيىء؛ أفيحل القدح فيمن عندك من الأدلة والقرائن الكثيرة على بعده عن القصود السيئة ما لا يبرر لك أن تتوهم فيه شيئاً مما رميته به؟ وأن الله أمر المؤمنين أن يظنوا بإخوانهم خيراً إذا قيل فيهم خلاف ما يقتضيه الإيمان؛ فقال تعالى:لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات ُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا[النور: 12] .
واعلم يا أخي أن هذه المقدمة ليس الغرض منها مقابلتك بما قلت: فإني قد ذكرت لك أني قد عفوت لك عن حقي إن كان لي حق، ولكن الغرض النصيحة، وأن أعرفك موقع هذا الاتهام ومرتبته من الدين والعقل والمروءة الإنسانية.
ثم إنه بعد هذا أخذ يتكلم عن الجواب الذي انتقده بما لا محلَّ لذكره هنا، وإنما الفائدة في هذه المقدمة.