بسم الله وبعد :
فهذا مبحث حول ما يسمى بالشرط الجزائي أو حكم الغرامة أو التعزير بالمال جراء تأخير الغنيّ والمماطل سدادَ دينه، أو فاتورته، ومن ثَمَّ تعطيله لمصالح دائنه ، وبيان من يأخذ الربح المتولد من ذلك الاستعمال من طرف الغاصب لمال مغتصبه، أَهَلْ يأخذه الغاصب أو المغصوب أو يقتسمانه مشاطرة بينهما ؟ أم غير ذلك ؟
وقد قسمته إلى المطالب التالية :
المطلب الأول : أنواع الشرط الجزائي : هي ثلاثة والله أعلم : .....
المطلب الثاني : حكم الغرامة المترتبة على تأخير سداد الفواتير : ....
المطلب الثالث : أهم الفروق بين الربا، وتغريم المماطل : .......
المطلب الرابع : الاختلاف في التعزير بالمال - الشرط الجزائي- مقابل التأخير في سداد الديون : ....
المطلب الخامس : شروط جواز الغرامة المالية الناتجة عن المماطلة في تسديد الحق : .....
المطلب : ذكر غلة المال المغصوب لمن تعود ؟ للمالك المظلوم أو للغاصب الظالم أو لهما معا ... ؟:
القول الأول : ذهب أكثر المالكية إلى أن الغلة تعود للغاصب لا للمالك الحقيقي، لأنه لو تلف عنده ضمن ، والغنم بالغرم ، وهذا مخالف للحديث الآتي :" من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته ".
وقيل يأخذ المغصوب مقدار ما كان يربح منه :
قال الخرشي في شرح مختصر خليل :" اعلم أن اللخمي حكى فيمن غصب دراهم أو دنانير هل يغرم ما يربح منها أو ما كان يربح فيها صاحبها ؟ ثلاثة أقوال فقيل لا شيء للمغصوب منه إلا رأس ماله استنقصها الغاصب أو اتجر فيها فربح وهو قول مالك وابن القاسم، وقيل إن اتجر فيها وهو موسر كان الربح له وإن كان معسرا فالربح لصاحبها وهو قول ابن مسلمة وابن حبيب في الولي يتجر بمال يتيمه لنفسه جعلا له الربح إن كان موسرا ولليتيم إن كان معسرا، والقول الثالث أن للمغصوب منه قدر ما كان يربح فيها أن لو كانت في يده"،
قال:" وحكى صاحب المقدمات الاتفاق على أن ربح الدراهم والدنانير للغاصب، والحاصل أن الراجح أن الربح للغاصب مطلقا كما أفاده بعض الشيوخ خصوصا وقد علمت أنه كلام مالك وابن القاسم وحكى الاتفاق عليه ابن رشد "، ولم يصح هذا الاتفاق بين المالكية كما أسلفنا .
بل قد قال ابن سحنون: لك – للمغصوب - ما كنت تتجر فيها لو كانت في يديك، ولم يتجر فيها الغاصب، بل قضاها في دين أو أنفقها ".
بل للإمام مالكٍ قولٌ آخر: فقال الطبري في اختلاف الفقهاء :" واختلفوا في حكم غلة المغصوب، فقال مالك : إذا آجر الغاصب المغصوب وكان دوابا فإن لأرباب الدواب إذا علموا ذلك كراء ما حمل عليه غرما عليه إن سلمت الدابة وإن تلفت خير أهل الدابة بين الثمن والكراء "حدثني بذلك يونس عن ابن وهب عنه" .
ثم نقله عن الشافعي أيضا قال:" ... ولا يكون لأحد غلة بضمان إلا للمالك "حدثنا بذلك عنه الربيع".
وذهب يوسف إلى قول مالكٍ الأولُ من أن الريع للغاصب لأن المال ملك له، وهو يضمنه ، وقد عَمِل به،
واستدلوا بحديث عمر الآتي في استلاف ابنيه من بيت المال، وقوله لهما :"أديا المال وربحه .... "، وقالوا: "فلم ينكر عمر قول ابنه : لو هلك المال أو نقص ضمناه، فلذلك طاب له ربحه ، ولا أنكره أحد من الصحابة بحضرته "، والعجب أن الحديثَ حجة عليهم ، لأن عمر قال لهما :" أديا المال وربحه "، ثم إنّ أبا موسى الأشعري والي البصرة هو من أسلفهما المال متأولا وأمرهما بالاتجار به ففعلا كما سيأتي، لا أنهما اغتصبا أموال المسلمين وحاشاهم من ذلك، وأين قياس عمل الصحابة الأطهار على هؤلاء المغتصبة الأشرار،
ووالله أنه لقول عجيب باطل غريب لا دليل عليه، ويكفي في بيان خطئه ما فيه من تشجيع بل وتحريض للفساق على السرقة والغصب وأكل المال بالباطل والنهب، ثم العمل به، ثم يتملكون كل ربحِه وغلتِه ، بينما يكتفي ذلك المظلوم المغصوب بالمشاهدة ويبقى كئيبا حزينا ينظر في الظلمة وهم يتمتعون ويغنوْن بماله، لا والله ليس هذا من أمْر الإسلام في شيء، ولا قوة إلا بالله .
وسيأتي أن عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم على خلاف هذا القول .
وأما الشافعية: فقد جاء في المجموع للنووي : (فصل) وان غصب دراهم فاشترى سلعه في الذمة، ونقد الدراهم في ثمنها وربح، ففي الربح قولان، قال في القديم: هو للمغصوب منه، لأنه نماء ملكه فصار كالثمرة والولد، فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد، وقال في الجديد: هو للغاصب لأنه بدل ماله فكان له ".
ثم قال: (فصل):" وإن غصب عبدا فاصطاد صيدا فالصيد لمولاه، لأن يد العبد كيد المولى، فكان صيده كصيده وهل تلزم الغاصب أجرة العبد للمدة التي اصطاد فيها فيه وجهان، أحدهما: تلزمه لأنه أتلف عليه منافعه ، والثانى: لا تلزمه لأن منافعه صارت إلى المولى ".
القول الثاني : ذهب جمهور الحنفية إلى أن الغلة الناتجة عن غصب يُتصدق بها: قال البابرتي في العناية :" ومن غصب جارية وباعها بعد ضمان قيمتها فربح فيها أو غصب دراهم وأدى ضمانها واشترى بها شيئا وباعه وربح فيه تصدق بالربح في الفصلين عند أبي حنيفة ومحمد "، وهو رواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا بحديث الشاة التي أخذت بغير إذن أهلها فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق بلحمها على الأسرى ، لكنه ليس في الغصب الظاهر ، بل من باب أخذ مال الزوجة من مال وزجها تأولا ،لأنه عليه السلام لما قال : «أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها»، فأرسلت المرأة، قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة، فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة، أن أرسل إلي بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطعميه الأسارى».
القول الثالث : ذهب جماهير السلف إلى أن الأصل مع الغلة تعود لمالكها الأصلي، وهو مذهب الحنابلة والظاهرية وقول للإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة ، ونُقل إجماعا، قال المجد ابن تيمية في المحرر (1/362) :" وإذا غصب دراهم فاتجر بها فربحها للمالك".
وقال ابن قدامة : إذا غصب أثمانا فاتجر بها أو عروضا فباعها واتجر بثمنها فالربح للمالك والسلع المشتراة له ، وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب: إن كان الشراء بعين المال فالربح للمالك "،
وقال ابن حزم في المحلى (5/250) :" وأما إن كان البذر مغصوبا فلا حق له، ولا حكم في شيء مما أنبت الله تعالى منه; سواء كان في أرضه نفسه أم في غيرها, وهو كله لصاحب البذر; لقول الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، ولا يختلف اثنان في أن غاصب البذر إنما أخذه بالباطل, وكذلك كل بذر أخذ بغير حق فمحرم عليه بنص القرآن أكله, وكل ما تولد من شيء فهو لصاحب ما تولد منه بلا خلاف, وليس وجوب الضمان بمبيح له ما حرم الله تعالى عليه ".
ثم ردّ على من جعل الغلة للظلمة ثم قال :" يلزمهم أن يجعلوا أولاد المغصوبة من الإماء والحيوان للغاصب بهذا الخبر, وهم لا يقولون بذلك ".
وهذا قول قوي يدعمه المعقول والحس والفطرة والمنقول ، وسد باب الذريعة على الفساق حتى لا يأخذوا الأموال من غيرهم بالباطل ليعملوا بها ثم يأخذوا ريعها ، وهو أمر عجيب يناقض الشرع أصلا.
لما يلي:
1/ قاعدة : "ما تولد عن الشيء أخذ حكمه ".
2/ قاعدة :" التابع تابع ".
3/ أن ذلك المال ليس له بل لغيره، فهو مال محرم خبيث .
الدليل 4/ خرجه الترمذي (1366) نا قتيبة نا شريك بن عبد الله النخعي عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته»، قال:" هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من هذا الوجه من حديث شريك بن عبد الله، والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن، وقال: لا أعرفه من حديث أبي إسحاق، إلا من رواية شريك "، وقتيبة ممن روى عن شريك قبل الاختلاط وله شاهد آخر :
فقد أخبر النبي عليه السلام بأن الغاصب يتحمل الغرم ولا يأخذ الغنم ، وهذا أمر مستثنى من حديث :" الغنم بالغرم "، و " الخراج بالضمان ".
وقيل معنى " له نفقته "، أي يتصدق بعمله على المساكين كفارة له، وأما الزرع وربحه فلمالكه .
وقيل : بل تُحسب على رب الزرع النفقة ، والغاصب يأخذ قدر نفقته وأجرته فقط ، وهو دليل لمن قال بأن الغاصب لا يستحق إلا الأجرة والنفقة على المال المغصوب .
الدليل 5/ قال الترمذي : قال محمد حدثنا معقل بن مالك البصري قال: حدثنا عقبة بن الأصم عن عطاء عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ".
ورواه يحيى القطان عن أبي جعفر الخطمي عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بزرع ، فقال : لمن هذا الزرع ؟ قالوا : لظهير قال : ليرد صاحب الأرض عليه نفقته، وليأخذ أرضه "، وخالفه حماد عن أبي جعفر فأرسله ، والموصول أصح .
قال ابن أبي حاتم في العلل (1427) قال أبي : هذا يقوي حديث شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم ، فليس له من الزرع شيء ، ويرد عليه نفقته "، قال أبي :" روى هذا الحديث غير شريك ، وحديث يحيى لم يسنده غير يحيى بن سعيد ... والصحيح : حديث يحيى ، لأن يحيى حافظ ثقة ".
قال:" وأما الشافعي فإنه يدفع حديث عطاء ، وقال : عطاء لم يلق رافعا"، قال أبي: بلى، قد أدركه ".
الدليل 6/ خرج البخاري في الصحيح (2272) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: ... قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون "، وبوب عليه :" باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم، وكان في ذلك صلاح لهم". لا لَه .
فإذا كان هذا في أمر رجل صالح أجّر أجيرا ولم يظلمه ولا تلاعب به، بل إن الأجير هو الذي لم يأت ليطالب بحقه، بل وهو من ترك ماله دينا في رقبة ذلك الرجل الصالح وذهب ، ومع ذلك فإن هذا الرجل الصالح لمّا عمل بماله واستثمره، أَرْجع له ديْنه وكل ما تولد عنه من أموال وأرباح ، فكيف الأمر - يا عباد الله – بمن يظلمون ويماطلون ولأموال منْ فَتَحَ عليهم أبواب الخير يجحدون، ولجميلهم يُنكرون، أليس هؤلاء أولى بأن يتوبوا ويُرجعوا الديون وما تولد عنها لمستحقيها .
ولقد صِرنا نراهم يتلاعبون بأموال المسلمين، ويخادعون الله والمؤمنين، فيجمعون الأموال عن طريق الديون والغصب والاستحواذ على الأمانات ... مع تتبع الرخص ، فإذا جمعوا الكثير من الأموال قالوا كذبا : تبنا إلى الله، ثم يُرجعون – هذا إن أحسنوا - رأس المال فقط لذلك الدائن المسكين الكئيب الحزين، متبعين للهوى وربما زلّات العلماء إن عرفوها .
ألا فليتقوا الله الرقيب العليم، وليعلموا أنه من شروط التوبة هو التخلص من كل ذلك المال الحرام وما تولد عنه وإرجاع المظالم لأصحابها والله المستعان .
7/ كما استدلوا بحديث عمر التالي وفيه قول عمر لابنيه لما استلفا مالا من بيت المال وربحا فيه :" قال : أَكُلَّ الجيش أسلفه كما أسلفكما ؟ قالا: لا، قال عمر رضي الله عنه: " ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه "، ثم تراجع عمر إلى النصف، لأنهما متأوّلان لا مغتصبان كما سيتبين :
القول الرابع: ...