17-02-2014 | يحيي البوليني
ومن أوائل الفتن الناتجة عن الشبهات العقلية التي ظهرت في تاريخ الإسلام فتنة الخوارج الحرورية التي ورد ذكر اسمها على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قالت لسائلة سألتها وجادلت فقالت لها "أحرورية أنت؟" , وهم الذين خرجوا من حروراء على الإمام علي بن أبي طالب فسموا بالخوارج وسموا بالحرورية نسبة لمكان خروجهم وتجمعهم.








استنبط العلماء الربانيون من قول الله سبحانه "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" السجدة:24، كما قال ابن القيم رحمه الله أن: "وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الإِمَامَةَ إِنَّمَا تُنَالُ بِالصَّبَرِ وَالْيَقِينِ, فَبِالصَّبَرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الإمَامَةُ فِي الدِّينِ" لأن مرد كل شر يطرأ على النفس الإنسانية ناتج من أمرين لا ثالث لهما وهما الشهوات والشبهات, والصبر يعالج باب الشهوات كما يعالج اليقين باب الشبهات فقال رحمه الله "فَلا يَنْجُو مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلا مَنْ دَفَعَ شَهَوَاتِهِ بِالصَّبَرِ، وَشُبُهَاتِهِ بِالْيَقِينِ " [1].


وبالنظر إلى كل فتنة عامة مرت بالإسلام والمسلمين نجد لها فكرة عقلية تدخل في باب الشبهات ينضوي هؤلاء المفتونون تحتها ويحركهم ويقودهم دوما كبير لهم يقوم فيهم مقام الرأس من الجسد تبدأ الفتنة به يشعل نيرانها ويسعرها ويقود أتباعه لتغذيتها, ومن هذه الأفكار ما تنتهي بموت هذا الدعي الكذاب ومنها من تستمر بعده بحسب ما يتوافر لديهم مسعرون جدد يسيرون على سير الأول أو يزيدون في الفتن ليضمنوا بقاء الفكرة الباطلة.


وتجمع صفات هؤلاء المسعرين بأنهم يحملون البابين معا من أبواب الشر, فهم مريضون بالشبهة العقلية أو الإيمانية ويدعون لها بكل اجتهاد وإخلاص في غير ذي نفع ولا فائدة, ويعتقون أنهم –وحدهم- على صواب, وأن ما سواهم على باطل, وهم مريضون أيضا بالشهوات التي تتحكم فيهم كحب الزعامة والقيادة وحب اجتلاب الأتباع وتكوين الممالك والدويلات وحب الرئاسة التي تقصم كل ظهر.


وظهور الفتن في أواخر الأزمان وكثرة الابتعاد الزمني عن زمن الأنبياء لا يمكن اعتباره غريبا, بل هو أمر قد يكون اعتياديا في الكثير من الدعوات لتباعد الأزمان وانحراف الناس التدريجي إن لم يجد من يقومه على الجادة, لكن الغريب حقا هو أن تظهر الفتنة في الجيل الذي لقي الصحابة رضوان الله عليهم وسألهم وحاورهم وسمع منهم وناقشهم وجادلهم, فبينوا له وجه الحق الذي انزله الله على نبيه, لكنه ادعى انه هو وحده من يحمل الحق واتهم هؤلاء الصحب الكرام بالانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وما كان هذا إلا لفساد في نفسه بسيطرة الشبهة العقلية والشهوة النفسية عليه.


ومن أوائل الفتن الناتجة عن الشبهات العقلية التي ظهرت في تاريخ الإسلام فتنة الخوارج الحرورية التي ورد ذكر اسمها على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قالت لسائلة سألتها وجادلت فقالت لها "أحرورية أنت؟"[2], وهم الذين خرجوا من حروراء على الإمام علي بن أبي طالب فسموا بالخوارج وسموا بالحرورية نسبة لمكان خروجهم وتجمعهم.


ومن اخطر وأهم بل وأول فرق الحرورية وجماعاتهم الأزارقة وهم أتباع الدعي نافع بن الأزرق, وهو الذي جمعهم وأقنعهم بفكره ونسبهم كجماعة فكرية خارجة إلى اسم أبيه, وبالفعل لم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددا ولا أَشد شوكة مِنهم.


ولم تختلف طريقة ظهور نافع بن الأزرق على الساحة الفكرية والسياسية الإسلامية عن طريقة من سبقه أو لحقه في الخروج, إذ تتشابه كثيرا سير هؤلاء الخارجين وسماتهم الفكرية أو الشخصية مما يحسن دراسة هذه السير والوقوف على دروسها لكشف كثير ممن يحاولون الخروج على كل ذي سلطان لتجنب الوقوع في الفتن, وعلى الرغم من ذلك قد تساعد بعض الظروف عددا منهم لعلو الشأن ولكثرة أعداد المناصرين بسبب أخطاء السلاطين القائمة ورجال الحكم في معالجة الفتن وكيفية منعها قبل قيامها أو إنهائها بعد ظهورها, ومن هنا تجدر العناية بدراسة هذه السير من باب الاستئناس بقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في الصحيحين: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني .."[3].


ويستحسن تقسيم السيرة السياسية لابن الأزرق وفرقته الضالة إلى مراحل:


المرحلة الأولى: البداية المتخبطة.


لم يذكر التاريخ كثيرا عن التاريخ الشخصي لنشأة نافع بن الأزرق, لكنه ابتدأ ذكره في كتب التاريخ والسير السياسية كصاحب رأي يجمع عليه نفرا من أنصاره ومؤيديه وذلك إبان الخروج على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.


فكان نافع يرى أن عثمان بن عفان ظل صالحا خلال السنوات الست الأولى فقط من حكمه ثم زعم أنه خالف بعد ذلك حكم القرآن وبدّل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبح –في نظره– كافرا, ثم والى الإمام عليا رضي الله عنه واعتبر أن سيرته حسنة مرضية وكان عنده مثالا للخليفة الصالح حتى جاءت نهاية معركة صفين التي قبل فيها الإمام بالتحكيم فاعتبره نافع كافرا في نظره وعندها جمع أصحابه في بلدة يقال لها حروراء -وهي قرية من ضواحي الكوفة– ونادى فيهم بالخروج على الإمام علي بن أبي طالب، ولذلك عرفوا هم ومن تبع رأيهم بعد ذلك بالخوارج أو الحرورية الذين انقسموا بعد ذلك لخلافات بينهم حتى إلى بلغوا قرابة ستة عشرة فرقة, ولذلك سمي من تبع نافع بالأزارقة.


المرحلة الثانية: محاولة إيجاد البيئة المناسبة للنمو.


ثم بدأت مرحلة جديدة في حياة الأزارقة وهي مرحلة انضمامهم إلى جيش عبد الله بن الزبير في حربه مع الأمويين, وذلك ليتمكن من النفاذ لأكبر قدر ممكن من المسلمين وليساهم في مولد دولة جديدة مناهضة للحكم الأموي ليكون له فيها موضع قدم ومركز سلطة ونفوذ فكري.


لكنه سرعان ما ترك ابن الزبير وخرج عليه بل وكفره أيضا بسبب مولاة ابن الزبير لعثمان وذلك لأنه لم يجد في البقاء مجالا خصبا لنمو أفكاره ولوجود شخصية ثابتة راسخة على راس القوم وهو ابن الزبير, فلم يجد نافع بدا من تركه والخروج عليه, وذلك يدلل على التلاعُب الفكري الشديد الذي تلاعَب فيه ابن الأزرق بفكر من وراءه الذين انساقوا خلفه بلا عقل ولا وعي.


فقال ابن كثير رحمه الله: "وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الأزرق، وعبد الله بن أباض وجماعة من رؤوسهم. فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم، لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان، -وكانوا ينتقصون عثمان- فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفا به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان، والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له.


فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم"[4].


المرحلة الثالثة: مرحلة بناء دويلة والتمركز فيها.


ثم جاءت المرحلة الثالثة التي جمع فيها ابن الأزرق عددا من الرجال الذين اجتمعوا في اخطر اجتماع بشري وهو الاجتماع الفكري العقائدي, فأيد أتباعه فكره وانساقوا خلفه واقتنعوا تمام الاقتناع بآرائه وانصاعوا له تمام الانصياع في انقياد أعمى, لا يعترضون ما يقول لهم فيسير بهم حيث يشاء.


ثم خدمته الظروف التي كنت تمر بالأمة حينذاك, فاستغل فيها انشغال الأمة وتفرقها بالخلاف السياسي والحرب الدائرة بين ابن الزبير الخليفة الشرعي حينذاك للمسلمين وبين الأمويين الذين أصبحوا بعد مقتل ابن الزبير خلفاء شرعيين انعقدت لهم الإمامة, فكان هذا الخلاف السياسي فرصة عظيمة له لتأسيس دويلة على فكرة تكفر الفريقين وتعلن مخالفتهما معا وتستعد للحرب عليهما أيضا معا, ولذلك جمعهم ابن الأزرق في هذه الدويلة التي توسعت فيما بعد فحاربت فرقته عبد الله بن الزبير والأمويين لمدة تسعة عشرة سنة كاملة حتى تم إنهاء فتنتهم.


فبعد انصراف الخوارج عن ابن الزبير سنة 64هـ خرجوا من مكة إلى جهتين, فرقة إلى اليمامة وعلى رأسها أبو طالوت والثانية إلى البصرة وعلى رأسها نافع بن الأزرق وهم النسبة الكبرى منهم, وأمروا عليهم نافع بن الأزرق وأقاموا بالبصرة مدة يسيرة إلى أن خشوا على أنفسهم من أهلها فخرج بهم إلى الأهواز وتبعه أتباعه إلى هناك وأسس فيها نقطة تمركزه وانطلاقه فاستولى عليها وعلى كورها وما وراءها من بلدان فارس وكرمان.


فبدأ ابن الأزرق بتأسيس فيها الكيان الخاص به وبفرقته والذي اعتبره النواة الحاضنة لكل من هم على رأيه من الخوارج وكفر جميع المسلمين سوى فرقته الذين اعتبرهم هم المؤمنين وحدهم بل اعتبر القعدة الذين لم يهاجروا إلى دولته التي يتمركز فيها كفارا حتى لو كانوا من المؤمنين بما يقول لأنهم كما يزعم في دار كفر يجوز للأزارقة فيها قتل كل مخالفيهم حتى النساء والأطفال وزعموا أَن أطفال مخالفيهم مشركون مخلدون فِي النار.


واستحلوا أمانات المسلمين فقالوا بأن مخالفيهم مشركون فلا يلْزمهم أداء الأمانة إليهم, واستهانوا كثيرا بأحكام الشرع وبدلوه فأقاموا الحد على قاذف المؤمنات ولم يقيموه على قاذف الرجل المؤمن كما قطعوا يد السارق في القليل والكثير فلم يعتبروا في السرقة بنصاب وأنكروا تمام حد الرجم لعدم وروده في القرآن الكريم.


كما قالوا بامتحان كل من يأتي إليهم لينضم لهم, فكان إِذا ادّعى أحد أَنه منهم دفعوا إليه أسيرا من مخالفيهم وأمروه بقتله, فإن قَتل الأسير صدقوه وضموه إليهم وان لم يقتله قالوا هذا منافق ومشرك وقتلوه وغير ذلك من العقائد والأفكار الضالة التي سيبسط لها ما يناسبها لاحقا.


وهكذا أصبح لابن الأزرق ولجماعته بقعة ارض تنطلق منها الفتنة, وأصبح لزاما على ابن الزبير رضي الله عنه وعلى الأمويين كل من جهته أن يوجهوا إليهم الجيوش ليحاربوهم وليردوهم عن هذا الغي والتلاعب بالدين وهدم أركانه قبل أن يستفحل خطرهم أكثر من ذلك.


المرحلة الرابعة: مرحلة المواجهات العسكرية.


تميزت خطوات ابن الأزرق بالسرعة الشديدة فبعدما تمت له السيادة على الأهواز وما حولها تمت مبايعته كأمير للمؤمنين من أتباعه ولقب بذلك فانضم إليه خوارج عمان واليمن فصاروا أكثر من عشْرين ألفا ووصل ملكه إلى أَرض فَارس وكرمان وأرسل إليه خراجها مما حتم على ابن الزبير أن يرسل لعامله على البصرة عبد الله بن الْحَرْث الخزاعى بضرورة مقاتلة هؤلاء الأزارقة, فأرسل إليه عبد الله بن الْحَرْث جيشا بقيادة مُسلم بن عبس بن كريز بن حبيب بن عبد شمس فالتقيا بدولاب الأهواز فَقتل مُسلم ابْن عبس وَأكْثر أَصْحَابه, فأرسل إليه جيشا ثانيا بقيادة عُثْمَان ابْن عبيد الله بن معمر التميمى في ألفى فارس فهزمته الأزارقة أيضا, فَخرج إليهم الجيش الثالث وقوامه ثلاثة آلاف من جند الْبصرة بقيادة حَارِثَة بن بدر الفدانى فهزمتهم الأزارقة للمرة الثالثة, وحينها لم يجد ابن الزبير بدا من مراسلة المهلب ابن أبي صفرة وهو يوْمئذ بخراسان, فأمره بحرب الأزارقة وولاه ذلك.


النهاية المستحقة


رجع المهلب إلى البصْرة واختار من جندها عشرة آلاف, وانضم إليه قومه من الأزد فصار جيشه عشرين ألفا, وَخرج وَقَاتل الأزارقة, فهزمهم عَن دولاب الأهواز إِلَى الأهواز وَمَات نَافِع ابْن الْأَزْرَق فِي تِلْكَ الْهَزِيمَة, وبايعت الأزارقة بعده عبيد الله بن مَأْمُون التميمى.


وهكذا قتل مسعر الفتنة الأول لكن لم تنته تلك الدعوة الخبيثة فظلت الأزارقة تقاتل عبد الله بن الزبير والأمويين من بعده لتسعة عشر عاما عاملة متصلة, ولا يزال فكر بعض الخوارج موجودا للان مما يدل على أن ما بذره ابن الأزرق من بذور شيطانية لا تزال تنبت وتفرخ حتى الآن.


وسنناقش بإذن الله الجوانب الفكرية للأزارقة مع مناقشة التطور الفكري والعقدي لابن الأزرق ثم نذكر مواصفاته الشخصية والفكرية التي أهلته لكي يكون صاحب فرقة وقائدا لجموع من المفتونين.









[1] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه مدارج السالكين: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين".
[2] عن معاذة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. فقالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" والحديث في الصحيحين.


[3] صحيح البخاري, كتاب الفتن, باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة, صحيح مسلم, كتاب الإمارة, باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.
[4] البداية والنهاية (8/ 243)