الكلمة وأثرها في صناعة الخير أو الشر < البلاء موكل بالمنطق > ..
اختيار الألفاظ الدالة على التفاؤل من مطالب شريعة الإسلام الجالبة لكل خير لهذا الإنسان في تاريخ قصة حياته ..
والألفاظ روح المعاني ، ولها تأثير في السلب والإيجاب ، وتحسين اللفظ واختيار المعاني : باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء ، وله شواهد كثيرة في السنة ، وهو من خاصية أهل التعقل والفطنة ..
وقلَّما أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ ... إلاَّ وَمَعْنَاهُ إن فَكَّرتَ في لَقَبِهْ
وقد يستشكل هذا من لم يفهم هذه الدلائل والإشارات ، ويظن أنها معارضة للقدر ، وليس في ذلك إشكال ؛ فإنَّ مسبب الأسباب جعل لهذه المناسبات مقتضيات ، وجعل اجتماعها على هذا الوجه الخاص موجباً لذلك الاقتضاء ..
وقد أشارت الشريعة إلى ذلك ، والأخبار المنقولة عن الصحابة وغيرهم تلمح إلى هذا المبحث الأصيل .. ومن ذلك :
ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحب الاسم القبيح ، ويكرهه جداً من الأشخاص والأماكن والقبائل والجبال .. حتى أنه مر في مسير له بين جبلين فسأل عن اسمهما فقيل له فاضح ومخز ، فعدل عنهما ولم يمر بينهما ، وكان شديد الاعتناء بذلك ، ويحث على تغيير الأسماء التي تحمل المعاني السيئة إلى الحسنة ..
ومن تأمل السنة وجد معاني في الأسماء مرتبطة بها حتى كأن معانيها مأخوذة منها ، وكأن الأسماء مشتقة من معانيها .. وانظر إلى فقه ، وفراسة النبي عليه الصلاة والسلام في قوله : ( أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، وعصية عصت الله ) ..
ولـمَّـا جاء سهيل بن عمرو يوم الصلح ، قال : ( سهل أمركم )، وقوله لبريدة لما سأله عن اسمه فقال : بريدة قال : ( يا أبا بكر برد أمرنا) ، ثم قال : ممن أنت قال من أسلم فقال لأبي بكر ( سلمنا ) ..
وجعل دلائل الأسماء أصلاً في عبارة الرؤيا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( رأيت كأنا في دار عقبة بن رافع ، فأتينا برطب من رطب ابن طالب ، فأولت العاقبة لنا في الدنيا والرفعة ، وأن ديننا قد طاب ) ..
ومن تأثير الاسم في المسمى حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده قال أتيت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال ( ما اسمك ؟ قلت حزن ، فقال أنت سهل ) قال لا أغير اسماً سمانيه أبي ، قال ابن المسيب : فما زالت تلك الحزونة فينا بعدُ ..
ولـمَّـا سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً : ما اسمك قال جمرة !! ،قال: ابن من ؟ قال : ابن شهاب ، قال : ممن ؟ قال : من الحرقة ، قال : أين مسكنك ؟ قال: بحرة النار !! قال: بأيتها ؟ قال : بذات لظى !! قال عمر : أدرك أهلك فقد احترقوا ، فكان كما قال عمر..
وفقه الكلمة والقول ، واختيار أحسنها وزمانها علم حسن ينبغي فهمه ودراسته ، لما في ذلك من أثر في الدعوة والواقع والحياة .. فكم من كلمة قيلت كانت سبباً في حصول خير ، أو حصول شر ، وقد قيل :
احذر لسانك أن يقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق !!
ومن البلاء الحاصل بالقول : قول الشيخ البائس الذي عاده النبي عليه الصلاة والسلام ، فرأى عليه حمى فقال : ( لا بأس طهور إن شاء الله ) فقال: بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور ، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( فنعم ) فمات الرجل بتركه لتفاؤله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ..
ومن العبر التي شاهدها العقلاء في تأثير الكلمة .. قول المؤمل الشاعر :
شف المؤملَ يومَ الحيرة النظرُ ... ليت المؤملَ لم يُخلقْ له نظــرُ
فلم يلبث ذلك المسكين إلا يسيراً حتى أصابه العمى !! ..
ولما نزل الحسين وأصحابه بكربلاء سأل عن اسمها فقيل : ( كربلاء ) فقال : ( كرب وبلاء ) .. ولما وقفت حليمة السعدية على عبد المطلب تسأله رضاع رسول الله عليه الصلاة والسلام ، قال لها: من أنت ؟ قالت امرأة من بني سعد، قال : فما اسمك قالت حليمة فقال : بخ بخ سعد وحلم ، هاتان خلتان فيهما غناء الدهر .
وقال عوانة بن الحكم : لما دعا ابن الزبير إلى نفسه ، قام عبد الله بن مطيع ليبايع ، فقبض عبد الله بن الزبير يده وقال لعبيد الله علي بن أبي طالب : قم فبايع ، فقال عبيد الله : قم يا مصعب فبايع ، فقام فبايع ، فقال الناس : أبى أن يبايع ابن مطيع ، وبايع مصعباً !! ليجدن في أمره صعوبة !! ..
وقال سلمة ابن محارب : نزل الحجاج دير قرة ، ونزل عبد الرحمن بن الأشعث دير الجماجم ، فقال الحجاج : استقر الأمر في يدي ، وتجمجم به أمره ، والله لأقتلنه !! .
فحفظ المنطق وتخير الألفاظ : من توفيق الله للعبد ، ومن ذلك الأمنية المتفائلة يـُحصّل بها العبد خيراً وبركة ، وبضدها التشاؤم والحسرات .. وهذا الفقه للكلمة وتأثيرها ووقتها ، ومتى تقال ، ومتى تصان .. باب عظيم النفع ، وقصة تاريخ لتجارب العقلاء والحكماء ، والسعيد من وعظ بغيره ، وجنب الفتن .
حسن بن محمد الحملي.