سم الله االرحمن الرحيم

هل هناك تعارض بين هاتين الآيتين؟

قال الله تعالى:" قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)"- الكافرون-.و قال جل و علا:" وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ" – العنكبوت:47-.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب:" قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يدل بظاهره على أن الكفار المخاطبين بها لا يعبدون الله أبدا مع أنه دلّت آيات أخر على أن منهم من يؤمن بالله تعالى كقوله {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} الآية.

والجواب من وجهين:
الأول: أنه خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا، فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك لأنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب، واختار هذا الوجه أبو العباس بن تيمية رحمه الله.الثاني: هو أن الآية من العام المخصوص و عليه فهو في خصوص الأشقياء المشار إليهم بقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)"-يونس- اهـــــــ.
لكن هذا التعارض إنما يرد إذ كانت الإشارة في قوله تعالى:" وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ" إلى كفار مكة –الذين سيؤمنون فيما بعد-. كما ذهب إليه الشيخ الشعرواي في تفسيره حيث قال:"وقوله سبحانه { وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ . . . } [ العنكبوت : 47 ] أي : من كفار مكة مَنْ سيأتي بعد هؤلاء ، فيؤمن بالقرآن." اهـــــ.
لكن لا تعارض إذا عاد اسم الإشارة "هؤلاء" على العرب و كانت "من" تبعيضية، أي من هؤلاء العرب الذين نزل فيهم القرآن من يؤمن به، و هذا البعض هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين من الله على كثير منهم بالهداية بعد الضلال، كما قال تعالى ممتنا:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)"- الجمعة.
و قال تعالى:" وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا"- آل عمران-.
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى:" { وَمِنْ هَؤُلاءِ } يعني: أهل مكة، { مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ } وهم مؤمنوا أهل مكةُ." اهــــــــــ.

ثم إن سياق الآية مع من أعاد الضمير على التوراة و اسم الإشارة إلى من آمن به ممن كان معاصرا للنبي صلى الله عليه و سلم كعبد الله بن سلام رضي الله عنه.
قال تعالى:" وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)"-العنكبوت.و هذا ما ذهب إليه إمام المفسرين رحمه الله تعالى و لم يذكر غيره، قال:" قول تعالى ذكر: كما أنزلنا الكتب على مَن قبلك يا محمد من الرسل(كَذلكَ أنزلْنَا إلَيْكَ) هذا(الكِتابَ فالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ) من قبلك من بني إسرائيل(يُؤْمِن ون بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يقول: ومن هؤلاء الذين هم بين ظهرانيك اليوم، من يؤمن به، كعبد الله بن سلام، ومن آمن برسوله من بني إسرائيل." اهــ.
و هو ما رجحه الإمام الألوسي حيث قال رحمه الله تعالى:" ولعل الأظهر كون المراد به علماء أهل الكتابين الحريون بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب كعبد الله بن سلام" اهـ.